الأربعاء، 19 يناير 2022

سورة البقرة من آية 26 إلى آية 29

﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ (26)

أولًا: هل الفاسقون يعرفون المثل؟ 
هم يعرفون المثل، لكنهم لا يعرفون ما هو غرض المثل؟ ما هو المقصود من ضرب المثل؟ هم يتساءلون: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ 
هم يعرفون المثل لكنهم لا يعرفون الغرض منه، لذا يقولون: (ماذا أراد الله بهذا مثلًا)؟ فمثلًا لو ضرب أحدهم مثلًا ففهمته وفهمت معناه، قد تتساءل: ماذا أراد صاحب المثل بضرب هذا المثل؟ هل يقصدني أم يقصد أحد آخر؟ وإذا كان يقصدني فما المعنى منه؟ فالفاسقون يعرفون المثل، لكنهم لا يعرفون ما هو الموضوع، وماهي مشكلتهم؟ وماهي علاقتهم بالمثل؟ أما الذين آمنوا فيعلمون ما هو الغرض من ضرب المثل!

ثانيًا: من هم الفاسقون؟ 
الفسوق فهو عدم تنفيذ الحكم مع الإقرار به، أما الفسق : فهو تبديل الحكم الذي أنزله الله بحكم  آخر. فالفاسقون هم الذين بدلوا مصدر أحكامهم وشرعهم عن كتاب الله، لماذا يفسق الفاسق عن الأمر؟ 
وماهو سبب فسوقهم؟ السبب الوحيد هو زيغ القلوب لشيء آخر، وسبب ذلك الزيغ هو تعظيم غير الله. 

ثالثًا: كيف نقرأ المثل؟ 
ما بعوضة فما فوقها؟ الفاء مربوطة بما قبلها، والعبارة موصولة، والمثل مخبوء في العبارة القرآنية بسيطة الألفاظ عميقة المعاني والدلالات، ومعناها هو التقليل من قيمة كل المخلوقات بدءً من أهون مخلوق وهو البعوضة، وكأنها تقول ما قيمة هذا المخلوق الضئيل الذي تحتقرونه؟ فإذا كانت الإجابة لاشيء، للدلالة على حقارته، فتكملة السؤال هي فما قيمة المخلوقات التي هي فوقه؟ في إشارة لبقية المخلوقات التي هي أعلى مرتبة من ذلك المخلوق الضئيل الحقير، والإجابة الضمنية هي: كلهم أمام الله مخلوقات! والمخلوقات درجات ولكنهم أمام الله عز وجل الخالق، هم واحد، ويضرب المثل بأحقر مخلوق يشاهده الإنسان ويحتقره، وهو البعوضة، ليرى بذلك نفسه. 

رابعاً: ما سبب الحياء؟
البعوضة معجزة، فما الحياء في هذا؟! إذًا سبب الحياء في التلفظ به، في أن نقول أن حقيقة الإنسان ماهي إلا بعوضة! فالحياء في التطبيق إذ لا نرضى أن نطبقه على الواقع، وخصوصًا حين نتحدث دينيًا عن أشخاص يقدسهم الناس، فنقول أنهم ماهم إلا بشر، والله عز وجل قال: أن مثل أي مخلوق هو كالبعوضة بالنسبة لكم! فيحصل الحياء لأننا لا نجرؤ أن نضرب هذا المثل أمام أتباع ذلك "القديس" البشري.

خامسًا : ما هو الحق في الآية؟
الآية متصلة بذات الموضوع السابق، بدءًا من الحديث عن مرضى القلوب، مرورًا بالحديث عن جعل الأنداد، إلى أن يصل إلى الحديث عن الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل في الآيات اللاحقة لهذه الآية "مثل البعوضة".
فالذين في قلوبهم مرض، لم يأخذوا بالكتاب كله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، ثم إن الله أذهب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون الهدى من القرآن، وذلك بسبب وجود الأنداد في قلوبهم، ولذا وقعوا في الارتياب في الكتاب، ثم جاءت هذه الآية بالحق في أن الأنداد الذين تم تقديسهم فانحرفت بوصلة التفكير بسبب الاعتقاد بهم بدرجة أعلى من الدرجة الحقيقية للبشرية، جاء الحق في قوله تعالى أنهم بشر وقدرهم عند الله كقدر البعوضة التي تحتقرونها، فتسحقونها بلمسة يد. 


سادسًا: كيف يُضَل بهذا المثل كثير من الناس؟ 
من لايؤمن أن حقيقة الإنسان في الخلق أمام الله كمثل أصغر وأضعف مخلوق - كالبعوضة - فقد أضاع مقام الإنسان، وإضاعة المقام هي إضاعة للحق بأسره، فحقيقة الانجذاب للحق مبنية على أساس أن يرى المؤمن أن القوة لله جميعًا، لا يشاركه فيها أحد، ولا ينازعه في مقامه أحد، فمن رأى أحدًا من الخلق أنه فوق الخلق وأعلى مقامًا منهم فقد افتتن به، وهذه الفتنة هي بداية إضاعة الحق، لأنها تتحول إلى تنازع في الكلمات، كلمة الله وكلمة ذلك البشر أو ذلك الخلوق، والله عز وجل يريد كلمته هي العليا في قلوب من أحبوه وآمنوا به، ولا ينازعها في ذلك المقام كلمة أخرى.
إذًا يُضَل كثير من الناس عن الهدى الذي هو في الكتاب، ويقعون في الريبة فيه، حين لا ينزعون من قلوبهم وهم وجود مخلوق فوق البشر في مقامه، وحين لا يطهرونه من الكبر في أنهم وطائفتهم إنما هم بشر ممن خلق، لا يزيدون عن غيرهم شيئًا ولن يحاسبوا بميزان مختلف عن بقية الناس. 


﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ (27)
هذه الآية الكريمة تتحدث عن أولئك الذين يضلون حين لا يعترفون بمثل - البعوضة - في خلق الإنسان، وتقول هم الذين " ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" وعهد الله هو ما يكون بين المؤمن وبين كتابه المنزل، وهم ينقضون ذلك العهد بالفسق، حين ينسلخون من أحكامه وعقائده إلى أحكام وعقائد أخرى، ولقد نقضوا ذلك الميثاق من بعد ميثاقه، أي بعد أن عاهدوا الله على الالتزام به. 

" ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" ما أمر الله به أن يوصل هو أحكام الكتاب، إذًا هم أناس مسؤولون عن توصيل ما أمر الله به في الكتاب إلى الناس، ولكنهم قطعوا هذه الصلة، ومنعوا كلمات الله من أن تصل إلى الناس، وأوصلوا بدلًا منها أحكام أخرى.   

" ويفسدون في الأرض" الإفساد في الأرض يكون بتبديل الدين، وتغيير الأحكام. وهذا ما يؤكد مسؤليتهم في إيصال كلمات الله، ولكنهم اختاروا أن يشيعوا بين الناس أحكام وعقائد ما أنزل الله بها من سلطان، وهي نفس الصفة التي سبق أن تحدثت عنها الآيات السابقة حين وصفت مرضى القلوب الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين. 

﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)﴾ 

الموت ليس هو العدم، فالموت يأتي بعد الحياة، ولقد خلق الله عز وجل الموت، بعد نشأة المخلوقات، وبعد أن أوجد الحياة. الآية تتساءل: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا"؟ أي كنتم قبل أن توجدوا في هذه النشأة أموات، فإذا قلنا أننا كنا أموات قبل هذا، فهذا يعني وجود حياة لنا قبل هذه الحياة، وتلك هي النشأة الأولى، بينما هذه هي النشأة الثانية، فقد عشنا في حياة قبل هذه، ثم أماتنا الله، ثم أعاد إحياءنا هاهنا. على هذا الأساس يمكن أن نقرأ الآية : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"؟
"ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون" وفي هذا المقطع تتحدث الآية الكريمة عن إعادة الإحياء مرة أخرى للبعث وللمحاسبة حين نرجع إلى الله يوم القيامة. والآية تتساءل في بدايتها كيف تكفرون بالله، تعقيبًا على مثل البعوضة والتي هي تعقيب في الأساس على موضوع اتخاذ الأنداد! كيف تكفرون؟ باتخذاكم للأنداد وبرؤية أحد بقدر أكبر من قدره، وأنتم تعلمون قدرة الله وتعلمون أنه هو الخالق ولا شيء يعادله؟! كيف؟ وهو الذي أحياكم في هذه النشأة بعد أن كنتم أموات، وأنشأكم في أحسن تقويم من أجل عبادته والتوجه له، لا لغيره. ثم تعقب الآية التالية لتعدد النعم التي من الله بها على الإنسان:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (29)

الآية تمن على الإنسان بالنعم العديدة التي أنعم الله بها على الإنسان، فهي تقول : "هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعًا" ، فإذا كان هو الخالق وهو المنعم فلم التوجه لغيره؟ ولم تجعل - أيها الإنسان - لله أندادًا بالتوجه لغيره. 
"ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات" بعد أن أخبر عن مافي الأرض يتحدث على أن ما في السماء من ترتيب للسماوات هو صنعه هو، وسبع سماوات من الممكن أن تكون سبع طبقات من الأسقف السماوية التي فوقنا. ثم تختم الآية الكريمة بقولها: " وهو بكل شيء عليم" ليستشعر الإنسان أنه تحت علم الله وليس ببعيد عنه، فكل ما يحدث على الأرض أو في السماوات فهي في علم الله. 

💥💥💥
مثل البعوضة يدفع الإنسان لنكران الذات أمام الله، وذاته هذه تتجسد في شخصه وطائفته ورموزه من الأشخاص الذين يؤمن بهم على أنهم بشر غير عاديون، وهذا المثل له علاقة بتزكية النفس، فالذين يزكون أنفسهم لا يريدون أن ينكروا ذواتهم، ولا يستطيعون النزول إلى حقيقة أنهم بشر ممن خلق الله، فهم في حالة استكبار على الآخرين، وهذه الحالة تقود إلى العمى والكفر والضلال. 

للمثل علاقة بحزب الشيطان المستكبر الذي يريد أن يسيطر بالقوة ويتدخل في اختيار الآخرين وتوجهاتهم وآراءهم، فيدخل للآخر من خلال تزكيته لنفسه، ويتحدث على أساس أنه صاحب  الرأي السديد، فيدفع المتبعين لله للتشكيك في اختيارهم ويقول لهم أن رأيكم غير صائب، وعليكم أن تتبعون، رغبة في السيطرة والسلطة بالرأي،  في المقابل فالمؤمن لا يريد أن يسيطر على أحد ولا يريد أن يقهر أحد، وإنما يدعوا لله شفقة ورحمة بمن ابتعد عن كتاب الله.


الجمعة، 10 ديسمبر 2021

سورة الرعد من آية 19 إلى آية 26

 ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26) ﴾ 

في الآيات الكريم مقارنة بين من يوفي بعهد الله وبين من ينقض العهد، فإذا علمنا أن العهد هو الكتاب المنزل، فإن المشكلة عند الفريقين متلخصة في التمسك في كتاب الله، هناك فرقة تتمسك به وأخرى لا تتمسك به وتشك فيه. 


﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾  (19)

هل يستوي الذي يعلم أن هذا الذي بين يديك هو الحق والذي لا يرى الحق، ولأنه حق إذًا هو منزل من عند الله، وقد استخدم لفظة "ربك" للإشارة إلى حقيقة الربوبية التي فيها الرعاية وتشتمل على الهداية، وفيها إشارة مضادة إلى الطرف الآخر الذي لا يرى هذه الربوبية ولا يشعر بها لذا يكفر بأي حقيقة تشير إليها.

ولقد وصف الذي لا يرى الحق بالعمى، وقد شغله شكل الرسول بدلًا من النظر إلى مضمون الرسالة، فالرسول بشر عادي، أما مضمون الرسالة فهي حقيقة تلامس القلب أنه لا يمكن أن يصدر إلا من عند الله، ولذا ختمت الآية بقولها "إنما يتذكر أولوا الألباب"، أي إنما يرى هذه الحقيقة الربانية إلا أولئك الذين ينظرون إلى لب الأشياء لا إلى شكلها الظاهري، فالب هو الحقيقية التي تؤكد أنه من عند الله، أما الشكل فهو شكل الرسول العادي الذي لا يكاد يصدقه أحد. 

هذه العبارة تعطي دلالة لوجوب أن  يتعامل المؤمن مع الله بشكل مباشر حتى يعلم حقيقة هذا الكتاب، 

﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ (20)

هذه الآية تصف "أولوا الألباب" بأنهم يوفون بعهد الله، وعهد الله هوالكتاب المنزل، وفي هذا إشارة إلى أن المخاطبين هم أهل كتاب وانقسموا إلى فرقتين فرقة تمسكت بكتابها وفرقة ابتعهدت عنه، والتمسك بالكتاب المنزل هو الوفاء للعهد، ثم تختم الآية بقولها: " ولا ينقضون الميثاق" هي مواثيق الكتاب التي واثقهم الله عليها أن لا يتخذوا من دون الله أندادًا، ولا يقولون على الله إلا الحق، ولا يبتعدوا عن مواثيقهم التي واثقهم الله بها. 


﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ﴾  (21)

وتضيف هذه الآية صفة أخرى لأولي الألباب الذين يؤمنون بما أنزل على محمد من قرآن، وهي أنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل، والذي أمر الله به أن يوصل هو الحق الذي جاءهم في كتبهم السماوية، فهذا الحق يجب أن يصل إلى الناس، يجب أن يعلم الناس أن الله يؤيد ما جاء به النبي محمد، وأن القرآن مصدق لما بين يديه. 

ثم تختم الآية بصفة أخرى: " ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب"، لذا يبلغون ما تعلموه من الكتاب، ولذا هم يؤمنون ويذعنون بما أنزله الله على النبي محمد ويؤمنون أنه الحق من عند ربهم.


﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾  (22)


الخميس، 17 يونيو 2021

سورة المسد

(بسم الله الرحمن الرحيم)
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) ﴾  المسد 

بدأت السورة بكلمة التب والتي تعني القطع والخسران والهلاك، "تبت يدا أبي لهب وتب" وهو وعيد إلهي لشخص أبي لهب في رد على مااقترفته يداه من سوء واعتداء للرسالة. ثم تتحدث الآية الثانية عن السبب الذي دفع به إلى أن يصل إلى موقع يعتدي فيه على الرسالة والرسول، هو المال "ما أغنى عنه ماله وماكسب" كثرة الأموال ووفرتها وتمكنه بها أفقدته ادراك حقيقة من هو! فاستغر وطغى ولم يعد يرى نفسه بحجمها الحقيقي، ولم يعد يعي مدى حجم اعتداءه هذا!
إن الاعتداء على الرسول يعني اعتداء على الرسالة، والاعتداء على الرسالة يعني التكبر والطغيان على المرسل، فمن ذا الذي يتجرأ على الطغيان والوقوف أمام الله؟ لقد فعل ما فعل، والله يمهله في هذه الدنيا لكن العقاب الإلهي جزاء فعله هذا ينتظره يوم القيامة.

" سيصلى نارًَا ذات لهب" لقد ذكرت هذه السورة اسم هذا الشخص أو كنيته التي يكني نفسه بها "أبي لهب" وهي من النوادر في القرآن، فقد ظن هذا الذي كنى نفسه بهذه الكنية أن الغلبة له، ويبدو أن هذا المسمى أكسبه الهيبة وأدخل الرعب في قلوب الذين من حوله، إلا أن الآية ترد أن اللهب الحقيقي ينتظره يوم القيامة ليرى أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العقاب، ليرى حجمه الحقيقي ويعرف حجم ما اقترفت يداه. 

"وامرأته حمالة الحطب" ثم تشرك السورة امرأته معه في العذاب الشديد الذي لا يمكنها الانفلات منه : " في جيدها حبل من مسد" مربوطة بحبال محكم الإغلاق في مواضع العنق واليدين، وذلك جزاء لها على ما اقترفته من اعتداء على الرسول والرسالة بحملها الحطب، في إشارة إلى طبيعة اعتداءها وتجاوزها مع الرسول والرسالة.

💥💥💥

لقد ذكرت السورة الكريمة هذا الشخص وامرأته كنموذج للطغيان في مواجهة رسالة الله، والله عز وجل يتوعد من خلال هذا النموذج كل متجبر على رسله ورسالاته وكتبه وآياته المنزلة. في السورة اشارة إلى أن مشكلة الإنسان مع رسالات الله ليست مشكلة فكرية وحسب، بل إن مشكلته في الأساس تكمن في طغيان نفسه والذي يظهر على أشكال من الاعتداءات المختلفة لإعاقة حركة الرسول والرسالة. 

لقد ظن أبو لهب أن له الغلبة والعز والبقاء، لكن ما هي إلا أيام ثم غادر الحياة ليلقى جزاء طغيانه واغتراره بأمواله، لقد أسمى نفسه أبا لهب، وعلينا أن نعلم من هذا الموقف التي تُذكرنا به هذه السورة القصيرة أن هذه الأسماء التي توحي بالقوة في الدنيا ماهي إلا سراب يتبخر حين يلقى الإنسان ربه ويشاهد قدر نفسه الحقيقي.

السبت، 17 أبريل 2021

سورة البقرة من آية 183 إلى آية 188


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183))
الكتابة هي أمر وفرض من عند الله سبحانه وتعالى، وهو مكتوب على الذين من قبلنا من أهل الكتاب ، والغرض من الصيام هو الوصول إلى التقوى. والتقوى مبنية على الامتناع والتحرز من الوقوع في الحدود الربانية، والصيام هو عبارة عن امتناع عن الحلال، وإذا تمكن الإنسان المؤمن على الامتناع في فترة محددة فهو قادر على الامتناع في فترة أطول والتي تمتد إلى بقية حياته. 
لماذا قيل في هذه الآية " كما كتب على الذين من قبلكم"، والسؤال: كل الأشياء التي كتبت على الذين آمنوا بالقرآن الكريم، هو نفسه مكتوب على الذين من قبل وهي من صلاة وحج وكذلك بقية العبادات، ولكن قيلت هنا بسبب الخصوصية التي يحملها الحكم بخصوص أن لأهل الكتاب مكتوب عليهم أيام معدودات، وهو ذاته ما يكتب هنا في هذه الآية. هو ذاته ما كتب  على الذين أوتوا الكتاب من قبل، ولكن صيام شهر رمضان فرض لنزول القرآن الكريم. 

(أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184))
"أياماً معدودات" هي عدد محدد من الأيام، وإذا نظرنا إلى الأمر على أنه في زمن النبي  سنرى أن ذلك الأمر موجود لدى أهل الكتاب، الآية لم تحدد الموعد، ولكنها محددة عند أهل الكتاب.
مع التدقيق والمقارنة في هذه الآيات، سنجد اختلاف للحكم في هذه الآية عن آية شهر رمضان، حيث نجد في هذه الآية فسحة في الإفطار ولكن لا يوجد نفس الفسحة في آية رمضان.
كما تشير هذه الآية أن هناك فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له، أي أنه يمكن أن يفدي لكل يوم عن الإفطار بطعام مسكين أو أكثر. وما يؤكد ذلك هو قوله: "وأن تصوموا خيراً لكم إن كنتم تعلمون" حيث أنه يمكن الإفطار على خلاف شهر رمضان المبارك. 

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185))
أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم في شهر رمضان الكريم، يبين الله سبحانه وتعالى أن شهر رمضان أنزل فيه القرآن وأمر بصيامه بغرض شكر النعمة، الشهر محدد ومحدود فأي يفطر فيه يصام بسبب المرض أو السفر يكون إتمامه في أيام أخرى، والآية تبين أن الغرض من ذلك أن الله يريد اليسر ولا يريد العسر.
وقوله لتكملوا العدة : أي أن أمر الله سبحانه وتعالى بكمال عدد أيام الشهر، ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون، أي هو الغرض من هذا الصيام.


(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186))
نلاحظ هنا أن الدعاء ذكر بعد الصيام، وهذا يرشدنا إلى أن الصيام أحد مقدمات الدعاء المهمة فنجعله وسيلة للتقرب لله بغرض الدعاء من أجل أي أمر من أمور الدنيا.
"لعلهم يرشدون" الرشاد في تحقيق المطالب التي يطلبها الإنسان من الله سبحانه وتعالى بالدعاء، فهو سبحانه الوسيلة الحقيقية لتحقيق المطالب، فإذا اهتدى الإنسان للدعاء وجعله جسراً لتحقيق تلك المطالب فقد وصل للرشد
لقد أجاب الله عز وجل في هذه الآية على السؤال للناس، ولم يرد للرسول من أجل أن يجيب الناس، لأن الله سميع مجيب للناس، ويتعامل معهم مباشرة. والآية تقول: "فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي" أي ليستجيبوا لي في ما آمرهم حتى أستجيب لهم في فيما يدعونني إليه.
 

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187))
الرفث كلمة خاصة في تحريم الحلال بشكل مؤقت لظرف محدد، استخدمت هنا لتشير إلى المباشرة أو ماقبل المباشرة، حيث أن الامتناع عن الرفث هو امتناع عن المباشرة بالضرورة كما تبين ذلك الآية الشريفة.
أما فيما يخص التوبة ، فالآية توضح أن أول خطوة في التوبة هي توبة العبد، ثم تكون توبة الله عليه .
وتشير الآية إلى أن لا يحرم المؤمن ما أحله الله سبحانه وتعالى " وابتغوا ماكتب الله لكم" .
يتكون الصيام من فترتين فترة سماح في الليل وفترة امتناع في النهار.الآية تتحدث عن اتمام الصيام إلى الليل، فهي تحدد نهاية الصيام، وتكون بالرجوع إلى النقطة التي بدأ فيها، وهي بداية الليل، وبذلك يكون الصائم قد أتم يوماً كاملاً.
اليوم يبدأ من الليل عند غروب الشمس، وليلة الصيام:هي الليلة التي تسبق نهار الصيام، الذي سيمتنع فيه المؤمن عن الطعام والشراب والمباشرة وحتى الليل.
وتبيين الآيات يؤدي إلى التقوى كما يشير إليه ذيل الآية، وبداية الآية يشير إلى أن المؤمنين كانوا على وضع محدد فاستحدث أمر جديد، وهو أن المباشرة كانت محرمة عليهم في الصيام. ومختصر فهم الآية هو أن مباشرة النساء ليلة الصيام حلال، ومباشرتهن أثناء الاعتكاف غير جائز.
وللآية علاقة بموضوع تبديل الآيات، وهو أن هناك آية سبقت هذه الآية كانت حرمت المباشرة ليلة الصيام وتم تبديلها بهذه الآية التي تحمل حكماً جديداً مخففاً.

1- "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"
 الرفث هو مباشرة النساء، وهو مباح ليلة الصيام.

2- "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم "
 كلمة "علم الله" تشير إلى أن مباشرة النساء ليلة الصيام لم يكن مباحاً قبل هذه الآية،  فهي توضح مبرر تبديل الحكم فقد كان المؤمنون يختانون أنفسهم، ويؤكد هذا المعنى كلمة "فالآن" في المقطع التالي.

3- "فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"
 الآية تحلل مباشرة النساء ليلة الصيام، وتؤكد الحلية بكلمة ابتغوا ما كتب الله لكم، وتضيف حلية الأكل والشرب حتى يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض من الفجر.حيث يبدأ صيام الامتناع.

4- " ثم أتموا الصيام إلى الليل " 
"ثم أتموا " تشير إلى الحد الذي يجب أن يصل فيه الامتناع ، إلى الليل والذي يبدأ عند سقوط قرص الشمس.

5- " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"
الاعتكاف هو المكوث في المسجد، ولا يمنع ذلك من عيادة المنزل. والاعتكاف في المسجد  لا يعني عدم الرجوع للمنزل، ولكنه فترة متواصلة يمكن للمؤمن فيها المراوحة بين المنزل والمسجد، والأكل والشرب. 

6- " تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون"
هذا بيان لآيات الله وتوضيح لحدوده في الصيام ،و التقوى تتجسد في عدم الاقتراب من تلك الحدود.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188))

أولاً: موضوع الآية
حرمة أكل أموال الناس بدون وجه حق،ومثال ذلك الربا أو في عدم سداد الدين مع القدرة ، أو الإحتيال، أو الإستيلاء على أموال الاخرين بالتسلط كما في هذه الآية.

ثانياً:مقاطع الآية

"لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"
كلمة أكل المال تأتي في الباطل

"وتدلوا بها إلى الحكام"
الدلو هو إيصال الشيء إلى طرف آخر لغرض الفائدة، ودلو المال هو إيصاله لطرف آخر هو الحاكم في هذه الآية، وهوالذي يمتلك السلطة أو الصلاحية ، كالقضاة أو الحكام العرفيين، وهم الذين يحكمون ولهم مناصب تنفيذيه في المجتمع وأصحاب نفوذ يسيرون أمور الناس في المجتمع.

"لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون"
الغرض من إدلاء المال للحاكم هو الاستفادة من سلطته للإعتداء على فريق من أموال الناس والإستيلاء عليه. بالإثم أي بالاعتداء. 


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)).

أولاً : ملخص
 كتب على المسلمين صيام أيام معدودات محددة الوقت والعدد، كما كتبت على أهل الكتاب من قبل نزول القرآن.وهي أيام يمكن إفطارها بفدية.

ثانياً: المقاطع 
1- " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " 
كتب عليكم الصيام بمعنى الفرض مع السعة في عدم التنفيذ بعذر.

2- " كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " 

تخاطب المسلمين أهل القرآن بأن هذا الصيام مفروض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب.

3- " أياماً معدودات "

محددة العدد

4- " فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر"

صيام الأيام المعدودات محددة الزمان، فمن يفطرها لأنه مريض أو  على سفر عليه أن يعتد من أيام أخر.

5- "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" 

 من يرغب إفطار هذه الأيام مع وجود الطاقة لديه على الصيام وبدون عذر،فعليه فدية طعام مسكين عن كل يوم. 

6- " فمن تطوع خيراً فهو خير له "

التطوع في زيادة الفدية.

7- "وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون" 

الخطاب موجه لمن يرغب في الإفطار مع وجود الطاقة على الصيام، فالصيام خير .


كلمات ذات صلة 

السبت، 27 مارس 2021

سورة البقرة من آية 21 إلى آية 25

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[21]
الآية الكريمة تخاطب الناس، وكلمة الناس تشمل جميع المذاهب وجميع الطوائف التي اندرجت تحت ملة إبراهيم والذين أنزل الله إليهم كتابًا سماويًا، وتقول لهم: "اعبدوا الله"، وعبادة الله هي الإخلاص له في أخذ أحكام الشريعة،  فلا تزيغ القلوب لغير ما أنزل الله، وهي المشكلة التي تتحدث عنها الآيات السابقة حينما أشارت إلى مرضى القلوب 
.

فمرضى القلوب زاغت قلوبهم لغير ما أنزل الله واتبعوا الهوى وابتعدوا عن كتبهم السماوية، وجاءت رسالة القرآن لتعيد الناس إلى الأصل الذي ابتعدوا عنه، وحين تتحدث هذه الآية وتقول اعبدوا الله، تعني بالعودة إلى أحكامه، وعدم تأليه أحد لا يستحق الأولوهية وذلك حين يُعتبر من قبل من اتبعه أنه يملك مصدرًا للتشريع. 

الاية تقول "اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم" في إشارة إلى مشكلة تعظيم السلف السابق، فهذا التعظيم هو الذي يقود إلى الابتعاد عن كتاب الله والوقوع في مشكلة الشرك، فالذين من قبلكم مخلوقون مثلكم أيضًا، فلا تعظموهم وتخرجونهم من البشرية فتقعوا في عبادة غير الله. ثم تختم الآية بقوله تعالى : " لعلكم تتقون" التقوى هي الهدف لأنها هي التي تدخل الجنة، وهذه الكلمة تؤكد أن المقصودين بهذه الآيات هم مؤمنون في الأصل، ولكنهم ابتعدوا عن أصل موضوع التقوى بابتعادهم عن كلام الله. 

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[ 22]
هذه الآية لا تخبر عن شيء لا يعلمه الإنسان هي تذكره بما يؤمن به، ولكن المشكلة أن ذلك الذي يعلمه لا يؤثر عليه في واقعه الإيماني العملي، ولا يؤثر في اتخاذه الأحكام من الكتاب والتوكل على الله، ولكن الذي يؤثر عليه هي معتقداته الموروثة حيث تكون لها الغلبة في حكمه في الدين. 
النظر إلى الآيات على الأرض وفي السماء تزيد الإنسان يقينًا وتعلقًا بالله عز وجل وبكلماته وكتابه، والعكس صحيح، فمن لا ينظر هذا الملكوت ولا يتأمل فيه لا يشعر بعظمة إله الكون، وقلة شعوره بتلك العظمة تخرجه بأحكام وقرارات بعيدة عن ساحة الإيمان.
"الذي جعل الأرض فراشًا" هل تأملنا كيف أن هذه الأرض التي نسير عليها مفروشة ممهدة للحركة وسير الإنسان، هي لم تكن هكذا بالصدفة، هي مصنوعة بالخصوص من أجل أن يسير فيها الإنسان ويتنقل من نقطة إلى أخرى بيسر وسهولة.

" والسماء بناءً " هل رفعنا رؤوسنا للسماء لننظر كيف هي؟ كيف حفظ الله أطنان من الماء فيها لتنتقل من موقع إلى آخر، ثم " أنزل من السماء ماءً" حين تصل إلى نقطة يريد الله أن يغيثها بالماء لتحيا، " فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم" النتيجة أن تخرج الأرض رزقًا للإنسان يأكل منه ويتمتع بخيراته المتنوعة، فسبحان الله.

" فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون" كيف تجعلون لهذا الإله ندًا من البشر أو من الملائكة، كيف تقدسون أحدًا غيره، كيف تسمعون لكلام أحد غيره وتنزلونه منزلة الند لله، وأنتم تعلمون أن نعمه تحيطكم من فوقكم ومن أسفل منكم!

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [23]
" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا" هذا الجزء من هذه الآية الكريمة يبيّن اتجاه الحديث في مقطع الآيات، فإذا كانت الآية (21) تقول: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم" فإن هذه الآية تعطي المعنى المخصص لتلك العبادة من خلال عرض الحالة النقيضة لها، فالمطلوب عبادة الله من خلال الإيمان بهذا الكتاب وعدم الارتياب فيه، والذي يعني في مضمونه الأخذ بأحكامه وعدم الخروج عنها إلى أحكام أخرى، فهذا ما يحقق العبادة لله في شكلها ومضمونها، أما النقيض لتلك الحالة فهو الارتياب في كتاب الله، ولذا تأتي هذه الآية لتخاطب ذلك النقيض استكمالاً للحديث الذي بدأت به آية (21) السابقة، وهو استكمال  للحديث العام -أيضًا- الذي بدأته سورة البقرة من بدايتها حين قالت" ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتقين".

ما تكشفه هذه الآية هو ما تم تعاطيه مع القرآن من قبل الناس الذين أنزل إليهم، فالمتقون أخذوا به بلا ارتياب، ومضوا في أوامره وأحكامه، أما الذين في قلوبهم زيغ وانحرفوا عن نهج الرسالات ارتابوا فيه، ولم يأخذوا به، بل استمروا على ما وجدوا عليه آباءهم، تخاطبهم الآية "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا " هل أنتم في حالة من الارتياب في هذا القرآن، ولذا لم تأخذوا به؟ ولم تصدقوا أنه من عند الله؟ إن كانت هذه مشكلتكم : " فأتوا بسورة من مثلة ".

بالنظر إلى السياق، وكذلك إلى المخاطبين في الآية، يمكننا أن نوجه أفهامنا إلى هذه الآية ولهذا المقطع بالتحديد " فأتوا بسورة من مثله"، السياق حول شراء الضلالة بالهدى، والمخاطبون هم من أنزل الله إليهم كتب من قبل ولكنهم اشتروا بها ثمنًا قليلًا، فما هو الإتيان بسورة من مثله؟ 

الإتيان بسورة من مثل القرآن تعني الإتيان بسورة من التوراة أو الإنجيل، القرآن جاء مصدق للتوراة والإنجيل، وهذا يعني أن القرآن مثل التوراة ومثل الإنجيل، ولقد جاء النبي محمدٌ قائلًا إني مُصدقٌ لما بين يديَ من التوراة والإنجيل، وفي التوراة سور هي مثل ماجاء في القرآن، فإذا جاؤوا بسورة من مثل ماجاء به النبي محمد في القرآن، وتم تحقق التطابق في المعنى، فهو مصدقٌ بالفعل، فلم الارتياب في صدقه، إذ لا يوجد ما يسوغ التكذيب وهم في الأصل مؤمنون بالتوراة والإنجيل، إلا إذا كانوا يمؤمنون بها إيمان ادعاء لا حقيقة، وهذا ما كشفه نكرانهم لدعوة القرآن.

ولأن هذه العملية - عملية التحقق من تطابق سور القرآن والتوراة - هي بحاجة لمن يقوم بالتصديق عليها من أهل الكتب السماوية أنفسهم، لذا قالت الآية " وادعوا شهداءكم " الذين يشهدون على مدى تطابق القرآن مع التوراة، فالشهداء هم الذين لديهم علم الكتاب، وهم الذين يتحدثون عن التوراة للناس. ولأن دعوى المرتابين هي في اتجاه التكذيب، تكمل الاية بهذا النمط " وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين"، إي إن كنتم صادقين في دعواكم أن سور القرآن لا تتطابق مع سور التوراة.

ولأن هذا الأمر يخالف الحقيقة، استخدمت الآية عبارة " من دون الله" لأنها شهادة زور وباطل وليست شهادة حق، فإن فعلوها فهي شهادة تخالف أوامر الله لأنهم مأمورون بأن يشهدوا بالحق على دعوى القرآن وينصروه. 

استخدمت الآية تعبير " عبدنا " في إشارتها للنبي محمد، وهذا التعبير متوافق مع العبودية التي تحدثت عنها الآية السابقة آية (21)، فالعبودية الحقة هي التي تكون باتباع الكتب المنزلة، أما العبودية التي تكون بتطبيق أوامر من خارج الكتاب فهي عبودية مزيفة، والنبي محمد جاء بالحق وصدق به وعمل على أساسه، والآية تقول : أنتم تكذبون القرآن في نصه، وتكذبون الشخص المطبق له، وبالتالي فأنتم مكذبون لما أنزله الله عليكم من قبل لأن القرآن والنبي محمد مصدقان لما بين أيديهما من التوراة والإنجيل، وإن ادعيتم خلاف ذلك.


(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) 
[ 24]
فإن لم تفعلوا بأن تأتوا بالشهداء الذين يشهدون أن ما أُنزل على النبي محمد هو مختلف عما لديكم من الكتب السماوية، أي أنكم لم تتمكنوا من إثبات عدم التصديق، ولم تتمكنوا من إثبات كذب ادعاء النبي برسالته، " ولن تفعلوا" أي لن تتمكنوا حقيقة من ذلك، "فاتقوا النار "خافوا على أنفسكم من هذا الموقف، آمنوا اتقاء النار
التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين". هي نارٌ مستعرة تأخذ وقودها من الناس أنفسهم، شيء لا يتخيله عقل البشر، أن يتحول الإنسان إلى جمرة مشتعلة تحرق من يقترب منه ويظل على قيد الحياة، فأي عذاب يعيشه هذا الإنسان المشتعل؟! وكيف تتحول الحجارة إلى وقود للنار إلا إذا وصلت إلى صهارة مذابة، فأي درجة من العذاب هذه؟! ولماذا يوقع الإنسان نفسه في هذه الحفرة؟ لأنه تكبر على كلام الله بلا حجة.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[ 25]
"وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات" هذه  بشرى من عند الله ينقلها الرسول إلى الذين آمنوا بالقرآن وعملوا الصالحات لوجه الله، وانقادوا لأمره، لقد آمنوا أن النعم من عنده، والأمر له مصيرهم في يده، فالبشرى لهم "أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار" بعد هذه الدنيا، لأنهم آمنوا بكلام الله وقدروه.
لقد جاءت هذه الآية بعد الوعيد الذي يتهدد به الله الذين يعاندون في آيات الله ويكابرون عن الإيمان بها واتباعها، وتأتي هذه البشرى في ذات هذا السياق لمن آمن وعمل صالحًا.
 
" كلما رزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل" النعم التي يمنها عليهم الله عز وجل في الآخرة مشابهة لنعم الدنيا، ولكنها بمستوى أعلى وأكمل، "وأتوا به متشابهًا ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون" 


💥💥💥

تحدي مثل القرآن

التحدي الذي تفرضه آية مثل القرآن في سورة البقرة - الآية 23 - مبني على أساس عدم القدرة على إثبات النقيض، فاليهود والنصارى لم يستطيعوا إثبات أن القرآن مختلف عن التوراة والإنجيل، وهذا يلزمهم بالإيمان به.  

تحدثت السورة في بدايتها عن حقيقة التقوى "الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، والذين كفروا من أهل الكتاب ادعوا أن النبي محمدا قد ادعاه، وأنه يخالف ما لديهم من كتب، وهذه الآية تطالبهم بإثبات هذا الادعاء الكاذب بالإتيان بالشهداء الذين يشهدون أن قول القرآن لاينطبق مع قول من هو مثله - التوراة -  فإن لم تفعلوا ذلك فاتقوا الله. هذا هو الوجه الأول للفهم.

الوجه الثاني للفهم، هو أنه إذا كان القرآن مطابق للتوراة، فما الذي يمنعكم من الإيمان به وهو مصدق لما معكم، الذي يمنعكم هو أنكم اتخذتم غير التوراة مصدرًا للدين، وهو سنة الآباء والأولين، وفي مقارنة الكتابين والتحقق من تطابقهما هو فضح لهم أنهم قد ابتعدوا عن الكتاب الأساسي الذي معهم وهو التوراة.

إذًا القرآن بهذا يفضح أهل الكتاب المخالفين، لإن اخراج التوراة من صندوقه وقراءته هو  يؤكد - 
بحد ذاته - صدق القرآن فيما يدعي من أحكام وشرائع نزلت فيه، وفي سورة البقرة كما سنعلم لاحقاً، وإذا كانوا يجادلون النبي على أنه يغيّر الأحكام، فالتوراة تناصر القرآن ولا تناصرهم.

وبهذا يمكننا أن نقرأ النص ضمن السياق، أن هناك مرضى قلوب اشتروا الضلالة بالهدى، أي اشتروا شرع غير الشرع من الكتاب السماوي، تقول لهم الآية ( اعبدوا الله ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) ثم تقول لهم (وإن كنتم في ريب) فأتوا بسورة من مثله، فإذ لم تستطيعوا أن تفعلوا فاتقوا الله، أي إذا لم تتمكنوا من إثبات أن القرآن مدعًى باطل، ولم تستطيعوا إثبات أن القرآن مخالف للكتب التي سبقته، فمن المفترض أن تكون هذه نقطة البداية لإزالة الريب الذي في صدوركم، فلماذا ترتابون في شيء لا يخالف التوراة؟

وهو بهذه الآية يعقب على الآية بادئة السورة (لاريب فيه هدىً للمتقين)، فأحد أهم صفات المتقين أنهم يؤمنون بما سبق من الكتب السماوية، ولو كان أهل الكتاب يؤمنون بالتوراة حق الإيمان لما ارتابوا في القرآن! لمَا تبين أنه مصدق لها. ويمكننا أيضاً أن نعتبر هذه الآية منطلقاً لفهم الآية اللاحقة وهي (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) فأحد صور النسخ هو أن القرآن نسخة من التوراة.

من هذا يمكن أن نقول أنه على المؤمن أن يتحقق من إزالة الريب من قلبه في الأحكام والشرائع التي أنزلها الله في الكتاب، فعندما يبدأ المؤمن في تنفيذ ما أنزل الله، هل يبقى قلبه ثابتًا على ما رآه في الكتاب؟ أم أنه يرتاب ويميل إلى ما ورثه من آباءه؟! 

الأنداد 
الحديث عن الأنداد في مقطع هذه الآيات الكريمة له دلالة هامة، فتبديل الأحكام وتبديل كلام الله له علاقة وطيدة بالاعتقاد بالندية، والله عز وجل في آية الأنداد في سورة البقرة - آية 22 - يخاطب الذين ادعوا الإيمان بكتبهم السماوية - وانحرفوا عنها - خطابًا يحطم فيه الندية التي جُعلت لله في كلماته ويقول : كيف تتخذون من آباءكم أندادًا من دون الله؟ هم مخلوقون مثلكم، وهل منهم من هو قادرٌ على إنزال الماء وإخراج الطعام؟ فكيف إذًا تجعلونهم أندادًا في الحكم وفي الشرع وتذهبون بعيدًا عن كتبي المنزلة؟ 

إذًا هذه الآية تكمل الحديث في ذات الموضوع الذي بدأته الآيات السابقة والتي تحدثت فيه عن مرضى القلوب، وتتحدث للناس على أساس أنه إذا كنتم تؤمنون أن الله هو الذي خلقكم وخلق الذين من قبلكم فلم جعلتم الذين من قبلكم من آبائكم أندادًا؟ ولماذا كان زيغ قلوبكم إلى ما قالوا؟ وإلى ما ورثتموه عنهم؟ فهذا نوع من جعل الندية لله، وهذه ربوبية من  غير الله. 

هم بشر مثلكم، فلم تقدسونهم؟ وتعلون كلامهم على كلام الله؟ وتذهبون وراء أماني الشيطان التي دسها لكم في كلامهم المنقول؟ فإذا كان هدفكم التقوى فلن تنالوا التقوى حتى تعبدوا الله بإحكامه وبكتابه. فقوله في الآية السابقة (21) " لعلكم تتقون " تشير إلى وجود من يتعبدون لله بغير ما أنزل، والنتيجة أنهم لا يصلون إلى التقوى. وإن كنتم تهدفون للوصول للتقوى فسيروا على ولاية الله.


مرضى القلوب
مرضى القلوب هم فئة من فئات المنافقين، والذين لا يشعرون أنهم منافقون، فالمنافقون يخادعون المؤمنين لكنهم فئتان، فئة تعي ما تفعل من خداع ومكر، وفئة أخرى لا تعلم أنها منافقة إولئك هم مرضى القلوب. ومرض القلب هو درجة من درجات الإيمان الضعيفة، فمرضى القلوب فئة مؤمنة لم يدخل الايمان قلوبهم.
 
يعمل مرضى القلوب فى تضليل المؤمنين عن تعمد بإشاعة ما يؤمنون به من معتقدات تخالف كتاب الله، ولكي يجعلون الناس تتمسك بأقوالهم وعقيدتهم، هم يظنون أنهم يصلحون من خلال هذا العمل، لكنهم لا يشعرون أنهم يبثون دين الشيطان لا دين الله! وهذه الفئة المنافقة فئة خطيرة على الدين لما يحدثه مسعاهم في تغيير دين الله وفي افساده. 

لخطورة هذه الفئة، فقد أولاها القرآن الكريم اهتمامًا كبيرا، بل إن القرآن الكريم يتحدث عن الموضوع في كثير من السور، فهو موضوع أساسي في سورة البقرة، كما هو بين في بدايتها. لقد أشارت الآيات أن هذه الفئة استبدلت الهدى بالضلال (أولئك اللذين اشتروا الضلال بالهدى) استبدلت آيات الله بما وجدوا عليه آباءهم! وهم الذين تحدثت الآيات عنهم في مثَل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم. لكنهم في الحقيقة فى ظلمات ويخادعون أنفسهم بأنهم يبصرون وأن لديهم  ضياء، وعندما ذهب الله بنور الكتاب من بين أيديهم انقطع مصدر النار واصبحوا فى ظلمات وضلال.



الحياة في الآخرة
الحياة في الآخرة ليست بعيدة عن حياة الإنسان في الدنيا، وإنما هي استكمال لها واستمرار على مافيها من نعم ومنن، فالحياة في الآخرة ستكون على نفس الأرض، وستخرج  الأرض نفس الثمرات والطيبات، وستكون فيها نفس اللحوم ونفس الملذات، وكما هو الحال في الدنيا فيها التباين في الأفراد من فقر وغنى، كذلك الآخرة فيها من ذلك التباين ولكن بالشيء الكبير.

فأما الفقر فهو فقر لم نره وفيه من الذل والهوان والعذاب مالم نسمع به ومالم نتخيله أو يخطر على بال بشر، فالفقراء هم أصحاب النار الذين يعيشون في مهانة وذل وعذاب وعطش وتعب وغم بأفظع الطرق التي يعلمها الإنسان والتي لا يعلمها، فإذا كان الموت يريح التعب في الدنيا فليس في النار موت وكذلك لا يوجد حياة. 

وأما الغني في الآخرة فغناه بدرجة لم يرها أحد من قبل، ولم يسمع عنها أحد ولا رأتها عين ولا في الأحلام، أو حتى الأمنيات ولا خيال الشعراء ولا في أوصاف الواصفين، أو أساطير أصحاب الكتب والسير. 

الجنه هى عيشة الملوك فأصحابها يأمرون أو يشيرون فقط  برغباتهم فتتحقق لهم بأفضل ما يتمنون، هي دار السلام والحب والموده والرضا والسعاده هى حياة الظل والبراد والراحة واللحم المشوي والثمرات والمتع المتنوعة، وفيها من النساء والولادان الذين خلقهم الله عز وجل لمتعة أهل الجنة فقط، والله عز وجل يبشر المؤمنين الذين يسارعون في مرضاته وتحقيق ما يأمر به في كتبه بهذا النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا تبديل. 

سورة البقرة من آية 1 إلى آية 5

الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)) 
 ذلك الكتاب: هي عبارة إبعاد للكتاب السماوي عن متناول القلوب، فكون القرآن بين أيدي الجميع لا يعني أنه في متناول قلوبهم، ولن ينال هذا الكتاب ويتعامل معه بيقين إلا من ارتقى إلى درجة التقوى التي أوضحت الآيات الأولى من السورة مطلبها.
وهذا عينه ما تبينه الصفحات الأولى من نفس السورة حين تشير إلى بيع الآيات بسبب الإرتياب، وإذهاب النور من سماء مرضى القلوب كعقاب، وجعل الأنداد كنتيجة حتمية للابتعاد عن الكتاب، وكذلك حين تجادل المرتابين بالكتاب بقولها (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا).

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)) 
هذه الآية الكريمة تقرر الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمن بالكتاب حتى يصل إلى التقوى التي تؤهله لدرجة اليقين بالكتاب فيعمل به دون ارتياب، لأن الارتياب يداخل كل من آمن بالكتاب مالم يؤمن ويتصف بهذه العناوين. 
وضعف الإيمان يقود إلى مرض القلب الذي ستشير إليه الآيات اللاحقة ، هم الذين يشترون بآيات ثمنا قليلا ، وهم الذين يقال لهم (فإن كنتم في ريب) . 

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) 
التعامل مع القرآن هو تعامل بالغيب، وهو تعامل مع إله بشكل مباشر، لذا لزم ذلك إقامة الصلاة حق الإقامة لأنها صلة العبد مع الإله الغائب، والنتيجة الطبيعية لهذه الصلة هو تزكية النفس  والطمأنينة ومعرفة الحقوق والواجبات وأبرز مصاديقها الإنفاق.


(أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (5)) 
الكتاب هدى بقول الله ( هدى للمتقين) ولذا فإن بقوله (أولئك على هدى) تعنى أولئك على هدى الكتاب، فهم الذين يأخذون بعقيدة الكتاب وأحكامه ويسلموا لها.

💥💥💥

الريب الذي تتحدث فيه الآيات عن الكتاب هو الارتياب في الأحكام التي تتحدث فيه الكتب السماوية، وكثير ما وقعت فيه الأمم السابقة كما.

هدى للمتقين الهدى هو الذي يقود إلى فهم الكتاب، وبالتالي هو الذي يقود إلى الصراط المستقيم، الجنة أعدت للمتقين ولو قرأت القرآن ودرسته دون أن تصل للتقوى فلا صراط مستقيم. 

في بداية السورة يبين الله عز وجل صفات المتقين الذين يهديهم الله عز وجل إلى الهدى في الكتاب، وأول تلك الصفات هي الإيمان بالغيب، وهذا الإيمان شرط لاكتساب هذا الهدى، وهنا لابد من أن يأخذ الإنسان موقف من نفسه وأن يواجهة حقيقة إيمانه بالغيب. 
 
وكذلك تتحدث الآيات عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فهما الوسيلة للوصول إلى التقوى المطلوبة.

والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون، لابد من الوصول لليقين بالآخرة.

الاثنين، 1 مارس 2021

سورة المرسلات من آية 1 إلى آية 7

 (بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7))
بدأت السورة بعدة أقسام عظيمة من أجل أن تخبر بخبر هام وعظيم بالنسبة للإنسان وهو يوم القيامة، وتقول إن هذا الموعد الذي توعدون به لواقع، هل لأن الإنسان لايصدق؟ أو لأنه يغفل عن هذا الحدث الأهم في حياته؟ في كل الحالات فالآيات تريد من الإنسان أن يضع هذا الموعد في أولى أولياته، أن يعيش في تفاصيل الحياة بدون أن يغفل عن هذا الحدث، بل وأن يضع هذا الحدث بين عينيه على الدوام. 

والآن يمكننا أن نتساءل، ماهي المرسلات؟ والتي يمتد جذرها إلى (رسل)، من هم أولئك المرسلات؟ وما هو العرف؟ والذي يمتد جذره إلى (عرف)، هل هي ملائكة؟ تلقي بهذا الإنذار ذكرًا لبني البشر عذرًا أو نذرًا؟ لعلهم ينذرون؟ ولعلهم يعذرون؟