الأحد، 31 يناير 2016

سورة البقرة من آية 168 إلى آية 176

بعد المقدمة في الآيات السابقة، في حب الأنداد الذين يحبهم بعض الناس كحب الله، يأت الحديث عن الطعام، وهو حديث مترابط وذو علاقة.


(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)) 

هذه الآية هي مدخل الحديث عن الطعام وهي تشرح الواقع الذي يعيشه المؤمنين في زمن الرسالة، وتقول لهم أن ما أنتم عليه الآن هو ما يقوله الشيطان وليس ما يقوله الله سبحانه وتعالى، وهنا الحديث في عالم التدين وليس في عالم الإلحاد أي أن الخطاب موجه للمتدينين أي الذين هم على كتاب أصلاً.
"كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً" هذا خطاب  للفطرة، فالأرض فيها الطيب وفيها الخبيث لكن الإنسان يعرف الطيب بفطرته؟ والله بأحكامه في الكتاب عرّف المحرّم، وقد يبدو أنه طيب، لكن الحرمة تقول لنا أن حقيقته هي أنه خبيث. وفي العموم فالآية تقول اتبعوا ما قاله الله ولا تتبع عداوة الشيطان.

(إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169))
هذه ثلاث أشياء مهمة يذكرها الله بخصوص الشيطان: وهي أنه يأمر بالسوء والفحشاء وأن نقول على الله ما لا نعلم. 

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)).
هذه الآية تشير إلى الحالة التي كان تعيشها الديانات قبل القرآن، وهي أن منزلة ما وجدوا عليه آباءهم أعلى من منزلة الكتاب السماوي. لقد خطط الشيطان على مدى بعيد فوضع موروث يخالف الكتاب، وحث الأبناء على تقديس موروث آباءهم ليضيع أمر الله، والآية تحذر من هذه الحالة وتقول "لا تتبعوا خطوات الشيطان"، وسياسة الشيطان هي أن يضع أساسات لبناء كبير بخطوات بسيطة بحيث يجعل الأجيال اللاحقة تقدس هذا الكيان ولا تتنازل عنه.
وقوله "ما أنزل الله" بصورة عامة فيها إشارة إلى الكتب السماوية السابقة، وليس بالضرورة أن يخاطب أهل القرآن الذين مع النبي محمد. والآية مترابطة بالآيات السابقة التي أشارت إلى الإتباع، والله يأمر المؤمنين باتباع الرسول. والاتباع المطلوب هو التعقل في فهم ما أنزل الله، فالآية تقول (إذا  قيل له اتبعوا ما أنزل الله) ، ولكن قولهم وردهم هو ابتعاد عن العقل والتعقل.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171))
"مثل الذين كفروا" تسمي هذه الآية الذين لا يتبعون كتاب الله بالكفار، وتضرب لهم  مثلاً وهو أنهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع
"ينعق بما لا يسمع" وعلى الرغم من أن الله سبحانه وتعالى يناديهم في الكتاب إلا أنهم لا يسمعون، ويكررون ويقومون بتكرار ما تعلموه وقدسوه من آباءهم، ومهما قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله يقومون بتكرار ما ألفوه ،و النعيق هو صوت الغراب، وهو صوت مزعج وغير محبب، ومكرر على نغمة واحدة، والمكرر هنا هو سنة الآباء في قبال هدي الكتاب.
" صم بكم عمي فهم لا يعقلون" في آذانه صمم فلا يسمع، بكم لا ينطق بالحقيقة، وإنما ينعق بالباطل المكرر، فهم لا يعقلون ما هي حقيقة ماهم عليه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172))
" يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم"يا أيها الذين آمنوا : نداء لمن آمن، والآية تقول أن ما في الأرض حلال طيباً، وبهذا هي تريد أن تناقض من يريد أن يحرم الطيبات بحجج واهية.
"واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون" الشكر هو الاعتراف والطاعة، وشكر المنعم على نعمه وفضله هو من الأساسيات التي  تنم على قدر الإيمان في قلب المؤمن، والشكر الحقيقي في هذا الصدد يتمثل في تنفيذ أحكام الله سبحانه وتعالى، لا الخروج عنها. والمعنى إن كنتم تعتقدون بإلوهية الله وربوبيته على هذا الكون فأطيعوه فيما يأمر وفعلوا أحكامه في حياتكم كما جاءت في كتابه ولا تعبثوا فيما حلله الله بالتحريم.
 ويجدر الإشارة إلى أن سورة البقرة هي سورة مدنية، والخطاب للمؤمنين، ويبدو من الخطاب أن المؤمنين لم يتخلصوا من قيود الماضي، وبعض أغلال المحرمات القديمة، ويبدو أن المؤمنين من أهل الكتاب في المدينة  لم يتخلصوا من سيرتهم السابقة ولازالت الأحكام الموروثة تؤثر عليهم، لذا فإن الإيمان الحقيقي يتجسد في طاعة الأمر بمعلومية الرازق والمشرع وهو الله سبحانه وتعالى وليس غيره. 
"إن كنتم إياه تعبدون " وهو هنا يعطي قيمة العبودية لله في قبال مؤثرات خارجية أخرى، فالآية  تؤكد للمؤمنين أن لا تحرموا شيء حلله الله في كتابه من خلال التأثر بأحكام خارج الكتاب، وهي تؤكد على حلية الحلال الطيب، والعبادة هي تنفيذ الأمر الصادر من المعبود، ولا يمكن أن نقول عن أحدٍ أنه مؤمن إلا أن يكون قد عمل. 

(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173))
"إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله" الآية تحصر الحرمة في العناوين المذكورة، وهذا الحصر بغية أن التقليل من المحرمات في قبال المزايدة من خارج الكتاب من قبل الذين يشرعون من خارج الكتاب.
" فمن اضطر غير باغ ولا عاد " الإضطرار بسبب حالة خاصة، لا بغرض أنه باغ وعتد لأكل هذه الأصناف. وكأن الاضطرار يلغي أي مانع من الأكل في الأشياء المذكورة. فمن أكل من لحم الخنزير وهو بدون اضطرار فهو باغ ومعتد.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174))
"إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" الكتمان هو عدم الإخبار، والمقصود هنا كتمان العلم من قبل من لديه علم من الكتاب بحقيقة ما حرم الله سبحانه وتعالى. 
وما أنزل الله من الكتاب هي الأحكام والقوانين التي ذكرها سبحانه في كتبه السماوية بخصوص موضوع الطعام، وبصورة عامة أيضاً في بقية الأحكام.
" ويشترون به ثمناً قليلاً" الشراء يكون بدفع قيمة وبمقابل، فالشاري يعطي شيء ويأخذ شيء آخر في المقابل، وهؤلاء الذين كتموا إنما أخذوا المكانة والإنتصار في قبال تضييع الحق والحقيقة الربانية في أحكامه وشرعه. 
"أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار" وهذه القيمة التي يتمتعون بها في الدنيا ستقلب ناراً حامية يوم القيامة.
" ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" لربما تكون التزكية في الآخرة أو قد تكون في الدنيا.


(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175))

اشترى شيء في مقابل شيء آخر، تماماً كما بينت الآيات بداية سورة البقرة "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين" فقد اشتروا مكانتهم وقوتهم في مقابل الحقيقة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى. اشتروا الضلالة بالهدى في الدنيا، والعذاب والمغفرة في الآخرة. والآية تتحدث عن الاستبدال الذي يكون حين ينتصر بعض علماء الكتاب إلى ذواتهم في قبال الحقيقة.


(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176))

الآية تشير إلى أن الذين اتبعوا الكتاب وصلوا إلى مرحلة اختلاف، وتقول أن هذا الاختلاف هو ابتعاد عن الكتاب، وما سبب ذلك الاختلاف إلا لأنهم لم يتبعوا الكتاب ولكنهم اتبعوا ما ورثوه من آبائهم، وانتصروا لطائفتهم وحزبهم دون أن ينتصروا للحقيقة الربانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق