السبت، 1 مارس 2014

سورة المائدة من 106 إلى 108

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)).


أولاً: الموضوع 
يبرز موضوع الآيات في آية (108) في أن يأتي الشهداء الموكلين بنقل الشهادة التي هي الوصية على وجهها دون تبديل، مع ضرورة استيعاب أن الموصي في حالة بعد عن المنزل والأهل، لذا فالأولى أن تكون هذه وصية حقوق، والتي يثبت فيها ماعليه لأناس آخرين.
على أن من يحضره الموت في بيته يوصي أولاده وأقرباءه كما في آية الوصية في سورة البقرة، لكن هذه الآية تعرض حل لمشكلة نقل الوصية بسبب ابتعاد الموصي عن مكان السكن فلا يستطيع توصية أهله بالحقوق التي عليه.

الآية الأولى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ ﴾ المائدة (106) 1- لننظر للمقطع : (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت)، ولنتساءل: هل هذا الشرط مرتبط بمجمل الآية ومن بدايتها، أم مخصص من أجل استحضار شاهدين من غير المخاطبين في الآية (من غيركم)؟ في أي اتجاه نوجه هذه العبارة الكريمة؟ لنناقش الحالة الثانية، فلو قلنا أن الآية تقرأ بالشكل التالي: ( أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض)، سيكون المعنى: إن ابتعدتم عن موقع سكناكم فعليكم بإحضار شاهدين من غيركم! فهل هذه قراءة سليمة؟ أي هل يمكن قبول المعنى بهذه القراءة؟ إذ إنه على أساسها سيكون من المحرم أن نأتي بشاهدين من عندنا إن نحن ضربنا في الأرض؟! لأنه من الواجب في تلك الحالة إحضار اثنين من غيرنا، فهذه القراءة تقول: في هذه الحالة عليكم بإحضار (غيركم) للشهادة. وعلى أساس هذه القراءة نتساءل: ما الحرمة في أن نأتي بشاهدين من عندنا؟! فلامعنى للعبارة القرآنية حينما نخصص الشرط (إن أنتم ضربتم في الأرض) لاستجلاب شاهدين من غيرنا. أما القراءة الثانية فهي أن نقول أن هذا الشرط مربوط بمجمل الحديث عن الشهادة ومن بداية الآية الكريمة، فتكون القراءة على هذا الأساس: ( شهادة بينكم .. إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت)، فإذا كانت القراءة الأولى غير مقبولة، فلا يوجد طريق آخر غير قبول هذه القراءة. إذا اتفقنا على هذه القراءة نضع التساؤل التالي: لماذا تكرر الآية الكريمة حالة الموت مرتين في جملة واحدة؟ فتقول : ( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ) ثم تعاود تكرار ذكر الموت ولكن بصورة المصيبة فتقول ( إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت)؟ لماذا لم تقل الآية: إن أنتم ضربتم في الأرض فقط؟! ومضمون التساؤل هو: هل الموت المذكور في بداية الآية بقوله (حضر أحدكم الموت) هو نفسه الموت الذي ذكر في نفس الآية ولكن بصيغة المصيبة : ( فأصابتكم مصيبة الموت)؟ أي موت هناك؟ وأي موت هنا؟ ومن هو المخاطب في الآية؟ وهل على الذي حضره الموت تكليف من قبل هذه الآية؟ أم التكليف على الذين من حوله فقط؟ ألا يبدو واضحًا أن الآية تشير إلى حالتي موت وليست حالة واحدة فقط؟ نعم هما حالتا موت مختلفتين ووقعتا في زمنين مختلفين، الموت الأول هو الذي سبقته العبارة ( إن أنتم ) أما الموت الثاني فهو الموت الذي سبقته العبارة ( إذا حضر )، وتتضح الصورة أكثر لخطاب الآية، حين نقول أنها تتحدث عن حضور الموت لأحد الآن في حالة وقوع مصيبة الموت لأحد آخر سابقًا. ولتقريب فهم الآية سنقدم هذا المقطع الأخير من الآية أولًا ( إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) ثم نقرأ المقطع الأول منها ( إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية) ثم ( شهادة بينكم ) ثم ( إثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم). إذا اتفقنا على هذا الترتيب الذي هو من أجل تقريب المعنى فقط، يبقى أن نحدد المقدر المحذوف والذي غالبًا مانفهم به القرآن، (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) أي أن أحد المؤمنين مات بعيدًا وغريبًا عن أهله، ( إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية) أي أن ذلك الميت الأول قد أوصى أحد المؤمنين لنقل وصية قبل أن يموت، ولكن حامل الوصية وهو في طريقه لنقلها إلى أهله بدأ يشعر بدنو الأجل (حضره الموت)، فالآية توجه له الخطاب وللمؤمنين الذين من حوله وتخبره وتخبرهم بما يجب عليه وعليهم فعله لنقل الأمانة.

2- لنتأمل المقطع الثاني من نفس الآية :
﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ ﴾ المائدة (106)
ولنتساءل : من المعني بتنفيذ الأمر (تحبسونهما)؟ ولنجيب على هذا السؤال بالاحتمالات، فنقول هناك احتمالين الأول هم الذين يعيشون حدث الوفاة وهم أمامه، أما الاحتمال الثاني فهم الذين يستلمون الشهادة من الشهداء بعد أن يأتي الشهداء من السفر؟

ولنفترض أن الإجابة هي أنهم الذين يعيشون الحدث وهم أمام حالة حضور الموت، فالآن سنسأل: متى يقوم الشاهدان ( الآخران ) كما بينت الآية التالية :( فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما) هل في نفس الساعة التي يتم فيها احضار الشاهدين أم في ساعة أخرى؟ إذا كانت في ساعة أخرى هل ستكون شهادة للحدث؟ والحدث يتوجب سرعة التنفيذ لأنها حالة حضور موت لأحد المؤمنين؟ من الواضح أنها في نفس الساعة وفي نفس الحدث ولا يمكن التأخر في البحث عن آخرين للوقوف على هذا المشهد، فإذا كانت في نفس الساعة سيكون السؤال : متى يتم العثور على اثم الشاهدين؟ هل في نفس هذه الساعة، هل أثناء استلام الشهادة؟ وكيف يتم العثور على شيء مخفي لا يظهر إلا بحدث جديد؟ وبموقف آخر؟! 


إذًا لا يمكن العثور على إثم الشهداء أثناء حضورهم الحدث، أو لنقل أثناء استلامهما للشهادة، لذا لا يمكن أن يكون الموقف أو الحدث الذي تتحدث عنه الآية هو احضار شهداء لاستلام وصية من يحضره الموت، ولنقل لا يمكن أن يكون المعنيين بالأمر ( تحبسونهما) هم  الذين يعشون حضور الموت لأحد المؤمنين.

أما إذا قلنا أن المعنيين بالأمر ( تحبسونهما) هم الذين يستلمون الشهادة من الشهداء، فسنستطيع الإجابة على السؤال: "متى يتم العثور على اثم الشاهدين؟" لأنها ستكون بوضوح أثناء الإدلاء بالشهادة، ففي الأثناء سيتضح أنهما أثما حين بدلا القول الذي حدث في السفر البعيد، ولنا أن نسأل:من الذي سيكتشف هذا الإثم؟ وهذا التغيير؟ سنقول هم الذين عاشوا معهم نفس الحدث، وحضروا تفاصيل الواقعة، واستشعروا جوانب المصيبة التي أصابتهم أثناء سفرهم، وليس من يستلم الشهادة الآن لأنه كان بعيدًا عن الحدث غائب عنه ولا يدري عن تفاصيله، ويمكن اكتشاف ذلك أثناء ادلائهما بالشهادة، في نفس الساعة وفي نفس الزمان. 

ومن هذا التحليل البسيط يمكن أن نقول أن الأمر ( تحبسونهما من بعد الصلاة) ناظر إلى تحري صدق الشهداء في نقلهما الشهادة أثناء الإدلاء بها للمعنيين بها وليس أثناء استلامها في ذات الحدث، وما يؤكد هذا الفهم ويزيد من وضوحه النظر للعبارة القرآنية الكريمة التالية وبصورة كاملة :
 ﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ ﴾ 
لو كانت الآية تتحدث عن استشهاد شاهدين على استلام وصية، فما معنى الارتياب؟ ومن الذي سيرتاب؟ ومتى يقع هذا الارتياب؟ هل يقع بعد أن استلم الشاهدين الوصية من الموصي؟ هل الارتياب من أهل الميت في أن يصدق الشهداء في الإدلاء بالشهادة مستقبلًأ؟ كيف وهم المعنيين بالقضية وهم شهود عليها؟ وغيرهم من الحاضرين شهود عليها أيضًا؟ فإن كذبوا فغيرهم يقوم مقامهما، فلا داعي لأن نجعلهم يقسموا الآن أثناء استلام الشهادة! ناظرين أيضًا إلى أن وصية الموصي من المفترض أن تنفذ بعد موته بلا فارق زماني كبير! والسؤال: أليس الأولى تبديل الشهداء بدلًأ من أخذ الأيمان المغلظة عليهما؟ لأن أصحاب الشأن يريدون أن يثبتوا حقهم بشهداء أكثر أمانة وأكثر كفاءة، خصوصًأ وأن الآية التالية تشير إلى إقامة شاهدين آخرين أحق منهما، فالآية تتحدث عن وجود البديل، فلم نلجأ للقسم والبديل موجود؟!


أما في حال كان الحدث هو استلام شهادة فإن المعنى يكون واضحًا ومنطقيًأ فالإرتياب يقع لدى مستقبل الشهادة (وهم أهل الميت) في صدق هذين الشاهدين فيما ينقلانه من قول أو حدث عن المتوفى، فإن وقع الإرتياب سيطلب منهما القسم بالله لتثبيت قولهما، وهنا لابديل عن الشهداء لأنهما كانا في الحدث ولم يكن ذلك باختيار من المعنيين الذين يستقبلون الشهادة الآن، لذا يكون طلب القسم بالله منهما طلب منطقي ومعقول، في حال الارتياب في قولهما. 


ثم إن الآية تختم بالقول : ( ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين) فهي تقرر أن كتم الشهادة اثم، ثم تأتي الآية التالية لتقول: (فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا)، لتبين بالمعنى المفسر والواضح أنهما بدلا الشهادة أثناء إلقائها فاستحقا إثمًا على تبديلها، على الرغم من أنهما يقسمان بالله بنفس النص الذي أعطي لهما لكنهما لم يلتزما بالقسم، فخاتمة الآية السابقة تبين المعنى المقصود في الآية اللاحقة. 

 
ثم إنه إذا كان الشاهدان يستشهدان على وصية من يحضره الموت الآن، سنضطرلقراءة المقطع التالي : ( تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم ) بالشكل التالي: إن ارتبتم في صدقهما فاحبسوهما من بعد الصلاة، وإلا فلا داعي لحبسهما في حال لم ترتابوا. أما إذا قلنا بأن الشهادة في الآية تؤخذ من الشاهدين سيكون المعنى: احبسوهما من بعد الصلاة لأخذ الشهادة منهما، فإن ارتبتم في شهادتهما فاطلبوا منهما القسم بالله بالصيغة المطلوبة، وإن لم ترتابوا فلا داعي لأن يقسما بالله، والمقصود أن القراءة الأولى تجعل من (إن ارتبتم) شرط للحبس بعد الصلاة، أما القراءة الثانية فتجعل (إن ارتبتم) شرط لأخذ القسم فقط. 

والمشكلة في الفهم الأول، أن الارتياب في الشاهدين يقع في وقت قصير جدًا، وهو المدة الزمانية المحصورة بين استلام الوصية إلى الصلاة التالية للحدث، وهي مدة ليست منطقية لوقوع الارتياب في الشاهدين - كما أسلفنا - 

أضف إلى ذلك أن المعنى في حبس الشاهدين من قبل وقت الصلاة إلى بعد أن يؤديا صلاتهما للإدلاء بشهادتهما أدعى للقبول من القول بحبسهما بسبب الارتياب فيهما ومن أجل أن يقسما بالله أن لا يبدلا الشهادة، فتبديل الشهداء أولى من الإصرار عليهما، فلا داعي أن ننتظر حتى نعثر على أنهما استحقا إثمًا، فلنبدلهما من الآن. من جهة أخرى فإن القبول بأن الآية تتحدث عن استلام الشهادة بعد أداء الصلاة فيه معنى أنها شهادة لله كما بينت الآية (لانكتم شهادة الله)، فالصلاة تربط على قلب المؤمن وتحفظ تقواه في أمرهام. 


الآية الثانية

﴿ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ ﴾ (107)
لفهم موضوع الآية وتحديد اتجاهها، نسأل السؤال التالي: في حالة العثور على اثم الشاهدين، إلى من توجه الآية خطابها؟ هل تتحدث للمعنيين بمن حضره الموت لإحضار شاهدين جديدين غير الشاهدين الذين  تم اكتشاف إثمهما من أجل سماع الوصية؟ على أساس فهمنا أن الآيات تتحدث عن شهادة على وصية،أم أنها توجه الخطاب للحاضرين الذين يشهدون المشهد بأن يتقدم منهما اثنان للإدلاء بشهادة أخرى غير التي سمعوها؟ على أساس فهمنا أن الآية تتحدث عن سماع شهادة؟
الإجابة في العبارة ( فآخران يقومان مقامهما) فالآية تأمر الحاضرين بأن يتقدم منهما اثنان ليثبتوا الحقيقة التي تم تبديلها من خلال الشاهدين الآثمين، ألفاظ الآية تدل على ذلك، ولا شيء يشير إلى أنها تتحدث للمعنيين بموضوع الميت أو من حضره الموت أن بدلوا الشهداء! بل إن الآية تتحدث على أساس أن في الحاضرين مراقبون على بعضهم البعض، لأنهم (وحدهم ) من يعلم الحقيقة على وجهها، والآية على هذا الأساس تأمر أولئك الذين لديهم الحقيقة أن يقيموا الشهادة جميعهم ولكن بالتقدم للمعنيين بالميت ليسمعوها منهم على أساس تقدم اثنين اثنين.

ما يؤكد هذا المعنى العبارة القرآنية:( من الذين ) في قوله تعالى : "فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" فـ (الذين) تشير إلى مجموعة لا يقل عددها عن أربعة، اثنان عثر على تغييرهما للشهادة، وإثنان الآن يقومان مقامهما من نفس المجموعة، فهذين الشاهدين يقومان بالشهادة على وجهها بأمر مباشر من الآية إليهما وليس بأمر من المعنيين بالقضية، وهو حق عليهما أن يقوما بهذا الواجب : (استحق عليهما) ويجب أن يقوم من المجموعة الأولى منهم  (الأوليان)، ولابد أن يتقدما في هذه الحالة من تلقاء أنفسهما ومن استشعار مسؤولية الشهادة وبأمر من  الله وليس بتوجيه من أحد. 

فإذا تقدما يقسمان بالله ويقولان : " لشهادتنا أحق من شهادتهما " أي ما نقوله من قول هو الأحق أن يتبع وينفذ، وهو أصدق مما قاله الشاهدان الأولان، " وما اعتدينا " لأن في قولهما هذا إظهار بأن الشاهدين الأوليين أثما وبدلا القول وزيفا الحقيقة، فهما يقسمان أنهما لم يعتديا عليهما وإلا فإنهما لمن الظالمين.

 إذا بالتدقيق في مسار هذه الآية وفي ألفاظها يتضح أيضًا أن موضوع الآيات هو استلام شهادة وليس إحضار شهداء للاستماع لوصية ميت، وعلى هذا الأساس يمكن فهم تفاصيل مجموعة الآيات أكثر فأكثر. 


الآية الثالثة


﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ المائدة (108) .

سؤال: من هم المقصودين في الآية؟ هل هما الشاهدان؟
الإجابة في العبارة القرآنية : ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة )، فهي تتحدث عن جماعة، وليس عن اثنين فقط، وتقول بأن الغرض من الطريقة التي أمرت بها الآية السابقة هو من أجل الإتيان بالحقيقة على وجهها دون تغيير، المقصودون في الآية لا يمكن أن يكونا اثنين فقط لأن الآية تقول : (يأتوا ) مشيرة إلى جماعة وليس (يأتيا). فمن هم هؤلاء الجماعة؟ لابد وأن يكونوا قد شهدوا مصيبة الموت في السفر، فإذا كانوا قادرين على الإتيان بالشهادة فهذا يعني أنهم شهود، وعلى هذا الأساس نفهم أن الإتيان بشاهدين ماهي إلا طريقة في استنطاق الحقيقة من جماعة، وهو ما يحدث في واقع الحياة حينما يراد التحقيق في أمر قد وقع أمام مجموعة من الناس، نسألهم فيجيب أحدهم، والباقي يستمعون للمتحدث، فيكون المتحدث الواحد بمثابة المتحدث عن بقية الجماعة الساكتة، والآية تقول فليتحدث اثنان، وليستمع طالب الحقيقة والجميع لقولهم، فإن انحازوا عن الحقيقة فلا يحق لبقية الشهود أن يسكتوا عنها، فليبرز اثنان آخران هم الأولى بالحديث، وليدلوا بشهاتهما، وليقسما بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين. 
ومن خلال هذه الآية، ومافيها من ألفاظ واضحة وبينة، يتأكد لنا ما فهمناه في الآيات السابقة أن موضوعها هو استلام شهادة من شهود وليس إحضار شهداء للشهود على وصية من يحضره الموت. 




===
نضيف إلى ذلك أن الفهم الأول ( استلام وصية ) يجعل من العبارة "تحبسانهما من بعد  الصلاة" عبارة مرتبطة بشرط الارتياب، فلو لم يكن في الأمر ارتياب من قبل أصحاب الميت فلا تقال، فيمكن أن نحذف هذا المقطع بالكامل لأنها جملة معترضة ليس أكثر لنقرأ الآية بالشكل التالي: 
( اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) وننتقل للآية التالية فنقول : ( فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما) لكننا نجد أن هذه القراءة قد بترت جزءًأ مهما في الآية وهو قوله تعالى : ( تحبسونهما من بعد الصلاة)، وهذا الجزء له علاقة ببداية الآية لفهمها بالكامل ضمن سياق واحد، فالآية تقول : ( شهادة بينكم .. إثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم .. تحبسونهما من بعد الصلاة) 



كيف سنقرأ العبارة القرآنية : ( إن ارتبتم ) هل سنقرأها: (تحبسونهما من بعد الصلاة .. إن ارتبتم ) أم سنقرأها ( فيقسمان بالله إن ارتبتم ) ؟ 


 إذا كانوا هم الذين يعيشون الحدث فهذا يعني في حال وقوع الارتياب يطلب منهما أن يقسموا بالله أن لا يغيروا القول أو الحدث. 

وبهذا الفهم تكون قراءة الآية بالشكل التالي: 
إن ارتبتم في أمانة الشهداء فاحبسوهم حتى يقسموا بالله أنهم لا يغيروا ما شهدوه. 


هنا مافائدة هذا القسم إذا كانت الآية التالية تقول : ( فإن عثرعلى أنهما استحقا إثمًا ) 

=====

ثانياً : أبرز ما في الآيات
1- (ضربتم في الأرض) : ابتعدتم عن مكان السكنى .
2- ( فأصابتكم مصيبة الموت) : مات أحد منكم .
3- (حين الوصية ) : أثناء فترة الوصية.
4- (حضر أحدكم الموت) : حالة احتضار أحدكم
5- (عثر على أنهما استحقا إثما) : تم اكتشاف تبديل الشهادة.
5- (يأتوا بالشهادة على وجهها) : مجموعة تقوم بعملية إيصال الشهادة.
6- (يخافوا أن ترد أيمان بعد إيمانهم): المجموعة الناقلة للشهادة تخاف من رد اليمين بيمين آخر.

ثالثاً : المقاطع 
1- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ)
إذا حضر الموت حامل الوصية، وهو "حين الوصية" أي أنه لم يبلغ أمانة الوصية بعد ، ويحمل وصية غريب عن أهله.

2- ( اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)

تعرض الآية الحل لهذه المشكلة بالإتيان بأربعة شهداء إما أن يكونا أربعة منكم ، أو اثنان منكم و آخران من غيركم، أو أربعة من غيركم إن لم تجدوا أحداً منكم. ليشهدوا على قول من حضره الموت، ويحملوا وصيته كشهادة تنقل إلى الأهل.ولأن الآية تتحدث عن موضوع الشهادة فإن المقصود من "ذوا عدل": من يقوم بالشهادة على وجهها، فهو الشخص الذي يصلح للشهادة.

3- (إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ)

هنا تعطي الآية الوضع الذي يسير فيه الحكم، وهو أن الذي حضره الموت وهو ناقل الوصية إنما ينقلها لتعرض أحد آخر للموت وهو بعيد عن مسكنه.

4- (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ (106))
تشير كلمة "إن ارتبتم" إلى أن المخاطب هو من يحضره الموت، وهو يطلب من الشهداء ناقلي الوصية القسم إن ارتاب في صدق توصليهم.

5- ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً)
(أستحقا إثماً):أي جاء حق على أنهما ليسا عدلاء في الشهادة ، ويتم العثور على الإثم في الشاهدين الأوليين من قبل أهل الميت مستقبلي الشهداء، وهذا يعني أنهم اكتشفوا أن الشاهدين بدلوا الشهادة التي حملوها.

6- (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ (107))
بعد اكتشاف حالة تبديل الوصية من الشاهدين الأولين، يقوم مقامهما بالشهادة اثنان آخران "من الذين استحق عليهما الأوليان" : أي تنطبق عليهما المواصفات المطلوبة فيما تم ذكره سابقاً في الآية السابقة "منكم أو من غيركم" و من الذين شهدوا قول حامل الوصية ،أوليان : من أولى، وتعني الأولى بالشهادة.

7- (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا)
"يأتوا بالشهادة" تشير إلى أن الشهداء أكثر من اثنين، وتؤكد أن دورهم يتمثل في أن "يأتوا بالشهادة" أي ينقلوا الشهادة لأهل الميت وهم عنه غياب.
"على وجهها" أي لا يعتريهم النسيان.

8- (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108))
تشير الآية للهدف من محاصرة الشاهدين بشهادين آخرين وهي أن "يخافوا" جميعهم من أن "ترد أيمان بعد أيمانهم".

رابعاً : ملحق
1- تفسير الميزان : آية ( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم  الموت) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق