الأربعاء، 12 أكتوبر 2016

سورة النساء من آية 59 إلى آية 70

لدى الرسول أوامر من عند الله، وفي حياته أمور وقضايا وشؤون عامة يبت فيها من خلال موقعه. في الأولى يأمر الله رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزل الله أي أن يبلغ هذه الأحكام لهم وخصوصاً في وقت الخلافات، وفي الثانية فإن الله سبحانه وتعالى يأمر الناس بطاعة أوامر الرسول في الشأن العام كما يأمرهم بطاعة أولي الأمر الذين هم أصحاب معرفة وخبره حسب مواقعهم أو بسبب قربهم من الشأن أو الموضوع. والذي يظهر من المنافقين أنهم يحكمون في قضاياهم التي تحتاج إلى حكم الله عند غير النبي لأنهم لا يريدون حكم الله، ولا يطيعون أوامر النبي في الشأن العام فيقعون في مصائب بسبب عدم الطاعة، والآيات تقول بصريح العبارة بأنهم لايؤمنون حتى يحكموا الرسول ويقبلوا بطاعته ويسلموا تسليما.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)) 
يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين في هذه الآية بطاعة أوامر الله وطاعة الرسول، وطاعة الرسول لا تنفك عن أوامر الله فهو يأمر بما يأمر الله سبحانه وتعالى، ويعطف على هذه الطاعة طاعة أولي الأمر وهم أصحاب الشأن في الأمور الحياتية التي تعترض المؤمنين، فآية (83) من سورة النساء تبين ضرورة إرجاع الأمر الطارئ من الأمن أو الخوف إلى الرسول أو إلى أولي الأمر لأنهم أقدر على استنباط فحوى تلك الأمور وبيان حقيقتها للناس، وفي ذلك دلالة على خبرتهم أو ارتباطهم بتلك الأمور لذا فهم أولى الناس بالحديث عنها (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً).
ثم تقول الآية فإن تنازعتم في شيء، أي إن وقعتم في حالة من التغالب بينكم بحيث أن كل طرف يجذب الحق إليه في شيء ما ولا يقبل التنازل، فردوا ذلك التنازع لله وللرسول ليحكم بينكم ولترضوا بعدها بحكمه، فهو خير من ترجعون إليه ففي ذلك دلالة على إيمانكم الحقيقي بالله واليوم  الآخر، لأن الرسول يحكم بما أنزل الله، ولا يحيف على احد.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60))
استكمالاً لموضوع الآية السابقة تقول الآية للنبي محمد(ص): لقد رأيت بنفسك الذين زعموا الإيمان بما أنزل إليك وهو القرآن وما أنزل من قبلك وهو التوراة يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، أي بدلاً من أن يتحاكموا عندك وأنت تحكم بالكتاب، يريدون أن يتحاكموا عند من يحكم بغير ما أنزل الله، وسمي الطاغوت كذلك لأنه بلغ حداً من التعالي لا يحق له أن يبلغه وهو أن يشرع للناس فذلك الحق لله  وحده، وهؤلاء المعنيين في الآية "الذين زعموا الإيمان" أمروا أن يؤمنوا بما أنزل في الكتب السماوية وأن يكفروا بالطاغوت وهي كل الجهات الأخرى التي جعلت لنفسها حقاً في التشريع فأضافت في الدين ماليس فيه، ولكن المشكلة أن لهذه الجهات مكانتها وقوة تأثيرها على الناس بما يجعلهم يميلون إليهم بدلاً من التحاكم إلى جهة الله المتمثلة في الرسول، ولكنهم بقبول تلك الجهات إنما يسعون في تحقيق رغبة الشيطان في إضلالهم الضلال البعيد. 


(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61))

بل وأكثر من ذلك فإن هؤلاء الذين يتحاكمون إلى الطاغوت إذا ذكروا بضرورة التحاكم عند رسول الله يصدون عن الرسول في تعبير عن كراهتهم للتحاكم عنده. ونلحظ تلازم في قوله تعالى " إلى ما أنزل الله وإلى الرسول" فالتوجه للرسول هو تعبير عن التوجه إلى ما أنزل الله، فكلمة الرسول هنا لا تعبر عن شخص الرسول وإنما عن وظيفته كمبلغ لرسالة الله. كما نلحظ أن الآية عبرت عن أولئك الذين تحاكموا عند غير الرسول بالمنافقين، فهم معه جسداً ولكن قلوبهم لم تؤمن بما جاء به من أحكام بعد ولازالوا يتحاكمون إلى غيره. 


(فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62))

الآية تفهم أكثر عند مواصلة القراءة، كما أن الآيات السابقة تسير في موضوع واحد ومترابط، فالقرآن هنا ينبئ الرسول بأن هذه الفئة المنافقة التي لا تحكم بأحكام الدين من عندك ستصاب بمصائب بسبب أفعالها وبسبب عدم طاعتها لأوامرك "كما توضح الآية التالية 64" في الشؤون العامة أو الشؤون الإدارية التي تتعلق بالحرب أو ماشابه، وبعد الوقوع في تلك المصائب سيجيئوك ليحلفوا بالله بأن نواياهم كانت حسنة وليست سيئة في تلك المخالفة، وأنهم أرادوا الإحسان والتوفيق، وفي ذلك تمويه ذكي جداً يراد منه أن يقبلهم الرسول وأن لا يرى خفايا قلوبهم من خلال أفعالهم التي تجر المصائب.


(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63))

ولكن الله يحذر النبي من التعاطف وينبئه بأن قلوبهم مريضة والله أعلم بما فيها من مشاكل، ويأمره بالإعراض عنهم وأن يعظهم ويقول لهم في نفوسهم قولاً بليغاً يبلغ أسماعهم ويخترقها للقلوب لعل هذا القول البالغ يكون سبباً في التغيير أو حجة عليهم من الله.


(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64))

وهنا تبين هذه الآية أن طاعة الرسول هي بإذن من الله وليس لذات الرسول نفسه ، وتبين هذه الآية المعنى المراد به في الآية (62) في أنهم خالفوا أوامر الرسول في الشان العام اعتقاداً منهم ربما بضعف إدراته وأن رؤيته ليست ثاقبة وسديدة للأمور، فجاءت هذه الآية لتقول بأن الله لم  يرسل رسولاً إلا ليطاع بإذن الله، وكان جديراً بهم أنهم حين ظلموا أنفسهم بمخالفة أوامره وعدم طاعته أن يأتوا للرسول مستغفرين طالبين من الرسول أن يستغفر لهم الله، وفي هذا دلالة على إيمانهم بأنه رسول متصل بالله سبحانه وتعالى مفترض الطاعة فيما يأمر، وأن عدم طاعته لا توصل للأمر السديد بل توصلهم للمصائب كما رأوا بأنفسهم.


(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)) 

ومن هذه الآية يتضح الأمر الذي بدأت به هذه الآيات في هذا المقطع في أن فريق من المنافقين الذين لم يطيعوا أوامر الرسول في شأن من شؤون الحرب أو الحياة وخالفوه ظناً منهم بعدم سداد رأيه ربما، وقعوا بسبب تلك المخالفة في شجار على أمر ما تسبب لهم في تنازع واختلاف، وكان هذا الأمر يحتاج إلى حكم شرعي، وبهذا هم مضطرون إلى الرجوع إلى جهة الله، ولكنهم بدلاً من أن يحكموك فيه اختاروا أن يذهبوا إلى الطاغوت ليحكم بينهم، وعندما علم الرسول بذلك حلفوا له بأن مقصدهم حين خالفوا أمره هو الإحسان والتوفيق. فجاءت هذه لتنفي إيمانهم بالقسم الرباني حتى يحكموك فيما شجر بينهم أي فيما وقعوا فيه من بسبب مخالفتهم تلك، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً لما قضيت بينهم وأنت تقضي بشرع الله وبالعدل دون حيف على أحد، ويسلموا لذلك الحكم تسليماً مطلقاً لا ردة فعل فيه. وفي هذه الآية يتجسد معنى التسليم للرسول ويتضح معنى الإسلام الذي هو رضا بحكم الله وشرعه بحيث لا يكون للنفس حرج ولا في القلب رفض.


(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66))

الآية تقول أنه لو أن الله كتب عليهم اقتلوا أنفسكم أي اقتلوا فريقاً منكم فلن يفعلوا هذا الأمر، ولو أن الله كتب عليهم أن اخرجوا من دياركم أي هاجروا مافعل ذلك الأمر إلا قليل منهم، وتبين الآية أخيراً سبب ما هذا الذي وصلوا إليه من عدم الطاعة في أنهم لم يفعلوا ما يوعظون به من  قبل، ولو فعلوا لكانوا اليوم أشد ثباتاً في الإيمان.

(وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68))
وإذا لآتاهم الله أجراً عظيماً ولهداهم صراطاً مستقيما. بيان على أن ما كان يوعظ به الرسول في بداية الأمر كان هدفه تقوية الإيمان وهداية القلب إلى الصراط المستقيم.

(وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً (70))
ويختتم مقطع الآيات القول بأن طاعة الله وطاعة الرسول هي السبيل لنيل نعمة الله الكبرى في الهداية للصراط المستقيم مع الذين أنعم الله عليهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق