(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي
أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ
رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154))
فاصل زماني يفصل بين نبي الله إبراهيم ونبي الله موسى، فبعد أن أنزل الله الوصايا في صحف ابراهيم وكانت تلك الوصايا بمثابة الدستور للملة، أنزل الله على نبي الله موسى كتاب التوراة تماماً للنور والهدى الذي انزل على الذي أحسن وهو نبي الله إبراهيم، وتفصيلاً لكل شيء فيها من شرائع وأحكام. وقد اختص الله سبحانه وتعالى هذه الرحمة لبني إسرائيل لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون.
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ
فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155))
تواصل الآيات في ذكر تسلسل الكتب السماوية الرئيسية في ملة إبراهيم فبعد التوراة تتحدث عن القرآن الكريم وتشير إليه "بهذا الكتاب" وتصفه بأنه مبارك وتأمر أبناء إسماعيل بالخصوص والعرب بدرجة ثانية والناس بصورة العموم باتباعه، ففيه الرحمة الله المرجوة. وكما أنزل التوراة على بني إسرائيل وهم أبناء يعقوب ابن اسحاق ابن نبي الله إبراهيم كذلك في المقابل هنا نزل القرآن على النبي محمد (ص) وهو من أبناء إسماعيل ابن النبي إبراهيم الخليل. وبهذه المقابلة نفهم أن الآية تتحدث ضمناً عن إتمام النعمة على أبناء إبراهيم بفرعيها إسماعيل وإسحاق، وهذا الإتمام للهدى هو إتمام للنعمة الخاصة لآل إبراهيم والعامة للناس أجمعين.
(أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا
أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ
دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156))
كانت التوراة مفتاح هدى لبني إسرائيل ولقد جعلتهم في الصدارة في العلوم الغيبية ومعرفة حقائق الرسالات، وفي المقابل كان أهل مكة وهم من سلالة نبي الله إسماعيل لا يعلمون عن ذلك شيئاً، والآية هنا تشير إليهم بصورة الخصوص (ولا ينفي التعميم للعرب)، وتقول لهم هاقد أُنزل عليكم كتاباً سماوياً كما أنزل على طائفتين من قبلكم "والإشارة إلى بني إسرائيل والنصارى"، فلا عذر بعد إنزاله عليكم ببقائكم على غفلتكم عن حقائق الديانات والرسالات و ما جاء في تلك الكتب، فما أنزل على موسى ومن بعده على عيسى هو بين إيديكم الآن، وهذا القرآن مهيمن عليهما وفيه حقائق لم ترد في تلك الكتب بحكم أنه يشمل فترة زمانية أبعد منهما.
كما أن الآية تشير إلى أمر مهم في التعامل مع الكتاب السماوي وهو الدراسة، والدراسة تتطلب اقتراب من الكتاب لفترة زمانية تُمكن من فهم مواضيعه وتسهل استيعاب حقائقه، بكثرة القراءة، وتجعله قادر على وضع كلماته في مواضيعها بدلاً من أن تنزلق وتنحرف لمواضيع أخرى، كما تمكنه من إرجاع الآيات المتشابهة إلى المحكم منها.
وفي كلمة الدراسة إشارة ضمنية إلى أن الكتاب السماوي هو الأساس في فهم الدين ومنطلق أخذ الأحكام والشرائع والمعتقدات بعد دراسته وفهمه، وقد جاءت هذه الآيات في سورة الأنعام تعقيباً على الانحرافات العقائدية وجملة من التبديلات في الأحكام، والآية تضع الحل لتلك الإنحرافات بالرجوع للكتاب ودراسته والتمسك به.
(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا
الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا
سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا
يَصْدِفُونَ (157))
إنزال الكتاب من ناحية أخرى حجة لله على الناس لكي لا يكون للناس حجة بعد الرسل، وعلى أهل الكتاب الأخذ به، وبإنزال القرآن الكريم لا مجال لأن يسبق المسلمين أحد من الأمم أصحاب الرسالات السماوية السابقة، في الهداية أو العلم، فقد جاء بآيات بينات، لذا فإن الآية تتساءل: من أظلم ممن كذّب بآيات الله ولم يؤمن ولم يأخذ بأحكام الله ولا شرائعه ولا عقائده، ومن أظلم ممن صدف عن آيات الله؟ وتعني ذلك الذي ادعى أنه مؤمن بالرسالات ولكنه لا يأخذ بأحكام الكتب المنزلة من عند الله، ولهذا فالآية تهدد الذين يصدفون عن آيات الله بسوء العذاب بما كانوا يصدفون، وتتساءل في الآية التالية عن: ماالذي ينتظرونه حتى يؤمنوا بهذا الكتاب أو بالكتب السماوية المنزلة؟
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ
آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ
أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158))
الآية تتساءل عن أولئك الذين لا يأخذون بآيات الله في دينهم ويصدفون عنها إلى غيرها، ما الذي يصدفهم عن آيات الله؟ هل هم ينتظرون أن ينزل الله مع الملائكة إلى سماء الدنيا حتى يؤكد لهم ضرورة الأخذ به؟ ولكن الآية حين تعرض هذا المشهد فهي تعرض مشهداً من مشاهد الآخرة، وتؤكد لو أن هذا المشهد هو الذي يجعلهم يتمسكون بالكتاب فإذاً هم ينتظرون الآخرة، فالأصل في الإيمان هوالإيمان بالغيب، فإذا جاءت الشهادة انتهت الدنيا وجاءت الآخرة، وإذا جاءت الآخرة سيكون الحساب، وحينها لا ينفع نفساً لم تكن آمنت من قبل هذا المشهد أو كسبت في إيمانها خيراً، فقل لهم يامحمد انتظروا إنا منتظرون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق