(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112))
بمثل ما تم توضيحه وتوصيفه
في الآيات السابقة، جعل الله لكل عدو شياطين من صنف الإنس وشياطين من صنف الجن
يكذبون ويفترون في الدين ويروجون لذلك الكذب بالإيحاء لبعضهم البعض، وهذا الجعل من
عند الله هو سماح منه سبحانه وتعالى بأن يقولوا ما يقولون وأن يسمعه من يريد سماع
ذلك.
(وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا
مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113))
ذلك القول يصغى إليه أي
يميل له بالسمع من لا يؤمن بالآخرة، وليرضوه، أي أنه إذن وسماح بأن يرضوا بما
يريدون، ومن ثم ليقترفو اماهم مقترفون: أي بناءاً على ذلك السمع وتلك الإفتراءات
ليفعلوا ما يريدون.
(أَفَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114))
هذه الآية تبين أن الآيتين
السابقتين تتحدثان عن حكم في الدين، أي أن الشياطين يحكمون في الدين فيأتي مستمع فيقبل بذلك وينفذ، وهنا
الرد على هذا الفعل، أفغير الله ابتغي حكماً: هل نأخذ غير الله حاكماً في الدين
بعد أن نزل الكتاب مفصلاً، حتى نجعل الله حاكماً علينا أن نحكم كتاب الله، والذين
آتيناهم الكتاب (من قبلك يامحمد) يعلمون أن (القرآن) منزل من ربك بالحق، نزل
بالحقائق التي يعلمونها في كتابهم السماوي، فلا تكونن من الممترين وهنا كلمة
الإمتراء هو التشكيك والتردد في تنفيذ ما جاء به القرآن في قبال قوة ماهو
متوارث والذي بينت الآيات أن هذا الموروث
أصله الشيطان، ولا علاقة له بالله ولا بكتبه المنزلة.
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (115))
تمت كلمات الله في القرآن
الكريم، لم تنقص شيء عما كانت عليه في التوراة والإنجيل، جاءت بالصدق، وجاءت
بالعدل، ولا مبدل لكلماته في كتبه السماوية، فالكتاب الجديد لا يغاير الكتب التي
سبقته، وهو السميع العليم.
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ
مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116))
تشير هذه الآية إلى أن
الكثرة والغلبة تكون لمن يتبعون الظن في موروثاتهم ولا يتبعون اليقين الذي في
الكتاب، الكثرة لمن يتبعون إيحاءات شياطين الإنس والجن، فإن اتبعتهم كان الضلال عن
سبيل الله، ومايتبعونه هو الظن، وما يفعلونه هو الإخراص وهو إسكات من يخالفهم.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117))
في الكتاب المنزل الحقيقة
التي يريدها الله من البشر، ومن تظن أنهم على حق وتأمل فيهم أنهم حفظة للحق، قد لا
يكونوا كما تظن، والعلم عند الله فيمن يحمل الهداية.
﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ الأنعام (118)
تأتي هذه الآية لتبين
الحكم الصحيح الذي خالفته الأهواء، وهو حلية ما ذُكر اسم الله عليه، وهذا
يعني أنهم حرموا بإسم الله وبإسم الدين ما أحل الله، والله يقول بأن كل ما ذكر اسم
الله عليه فهو حلال.
لفهم الآية ولتحديد اتجاهها، نسأل الأسئلة التالية: عندما تقول الآية: "كلوا مما ذكر اسم الله عليه" فهل يعني أن الأكل مما ذكر اسم الله عليه واجب؟ أم أنها تقصد أنه مباح؟ لا يتصور من متدبر أنه يفهم أنها تُوجب على المؤمن أن يأكل أكلًا محددًا، ولكنها توجب عليه أن لا يحرم ما أحل الله، فالآية وإن كانت بصيغة الأمر إلا أن معناها كما يفهمه المتأمل هو تأكيد على إباحة ما ذكر اسم الله عليه، والآية تؤكد على المؤمنين أن يستجيبوا لآيات الله وأن يأكلوا ما يشتهون من الطعام دون امتناع عن شيء لأسباب دينية باطلة مترسبة في القلب " إن كنتم بآياته مؤمنين".
ثم نسأل السؤال التالي: هل الآية تتحدث عن مطلق الطعام؟ أم أنها تتحدث عن أصناف محددة؟ أي هل تقصد الفواكه بأنواعها والخضار بأصنافها والحليب بمشتقاته، إلى آخره من الأطعمة؟ أم أنها تتحدث عن شيء محدد؟ والإجابة أيضًا حاضرة في ذهن المتأمل وهي: أن الآية تقصد الأنعام واللحوم بصورة عامة، ولو سألنا كيف فهمنا ذلك؟ سنقول من خلال السياق، فالآية مرتبطة بالآيات اللاحقة، ومرتبطة بمجمل موضوع حرمة الطعام في القرآن الكريم، فلا يمكن أن نفصل الآية عن السياق العام ولا السياق الخاص، أليس كذلك؟ لذا يجب أن نفهم الآية ضمن موضوع وليس باستقلالية عن غيرها.
يبقى أن نسأل السؤال التالي: ما المقصود بذكر اسم الله على الأنعام أو أي حيوان يراد أكله؟
لنفترض أن المقصود من ذكر اسم الله يعني وجوب التلفظ بقول: "الله" على اللحم المراد أكله، وعلى هذا سنسأل: متى يجب أن يُذكر الاسم؟ قبل الذبح أو أثناءه أو بعده؟ لو قلنا أثناء الذبح؟ سنسأل: أي آية حددت ذلك؟ هل هذه الآية حددت متى يجب أن نذكر اسم "الله" ؟ أو أن هناك آية آخرى حددت ذلك؟ وإذا قلنا بأنه أثناء الذبح، ولم ينفذ ذلك الأمر لأي سبب من الأسباب، فهل يصح أن نطبق هذا الأمر بأن نذكر اسم الله بالتلفظ على اللحم بعد الذبح؟ وهل الآية حددت ذلك؟ ولو افترضنا بأننا سنذبح قطيع من الأغنام لدى أحد المسالخ ولا نضمن أن الذابح يلتزم بالذكر - كما حددناه نحن أن يكون أثناء الذبح - فقررنا أن نذكر اسم الله على الأنعام وهي حية قبل أن تدخل المسلخ، فهل يكفي هذا التلفظ؟ أم لابد وأن يكون بالتحديد أثناء الذبح؟ ولو لم يلتزم الذابح بالذكر أثناء الذبح، فهل يجوز لمن يقف ينظر لعملية الذبح أن يذكر اسم الله -بالتلفظ - عليها لتكون حلالًا؟
قد نتصور أن الإجابة على تلك الأسئلة موجودة في القرآن لأن طريقة ذكر اسم الله على الأنعام أو اللحوم منطبعة في الذهن من خلال الصورة التي وجدناها في التقليد والموروث، وهي أن ماسك السكين يرفع صوته بالذكر أثناء الذبح، فربطنا قول الآية "ماذكر اسم الله عليه" بهذه الصورة، لكننا لم نطرح الأسئلة الجادة على الآية حتى نخرج حقيقة ماتقصده! وانخطفنا إلى هذا الواقع مباشرة، وافترضنا من خلال الصورة المطبوعة في الأذهان أن ما يجعل هذا اللحم حلالًا هو أن يُذكر اسم الله - بالتلفظ - على الأنعام أو أي حيوان يراد أكله من قبل الذابح أو صائد الصيد أثناء الذبح أو أثناء الصيد، رغم أن الآية لم تقل ذلك! ولم تحدده أصلًا! فتأمل.
لو كان المطلوب هو ذكر اسم الله بالتلفظ به أثناء الذبح لكان لزامًا أن تحدد هذه الآية أو أي آية أخرى ذلك الوقت المحدد، لأن في تحديده تضييق لدائرة الحلية، ولأن في ذلك التحديد إلزام للإجابة على كثير من الأسئلة آنفة الذكر والتي تحتاج إجابة واضحة وبيّنة من هذه الآية أومن القرآن الكريم، وما لم يحدده القرآن فلن نستطيع تحديده نحن من تلقاء أنفسنا إذ عليه سنكون مسؤولين عن فرض حكم الحرمة على شيء لم يُحرم.
وخلاصة القول أنه إذا قلنا بهذه الفرضية أن الآية تقصد - التلفظ باسم الله أثناء الذبح - نقول إن الآية لم تحدد وقته! ولكننا نحن من حددناه، وجرينا وراء العادة المألوفة أنه يكون أثناء الذبح فحملنا الآية - والقرآن - ما لم يقله! والآية تقول "كلوا" لتفتح أبوابًا أغلقتها عقائد باطلة وأحكامًا ما أنزل الله بها من سلطان في أطعمة أحلها الله، ولو كانت توجب ذكر اسم الله بالتلفظ من قبل الذابح على المأكول سيكون لفظها : " لا تأكلوا" إلا بهذه الطريقة، لتغلق الأبواب التي أرادت الآية - أصلًا - أن تفتحها.
ولنتساءل مرة أخرى: لم لا يكون الذكر بعد الذبح أو قبله؟ ولم لا يكون الذكر بغير التلفظ؟! ولنفترض وجوب ذكر الله بالتلفظ بعد الذبح سيكون الأولى بالتلفظ هو الطاعم نفسه، ولكن الآية تخاطبه بأن الأمر قد تم مسبقًا حين قالت " فكلوا مما ذُكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين"، وإذا كانت العملية محصورة في الماضي، فلماذا نحصرها وقت الذبح؟ ولماذا نحصرها بالتلفظ فقط؟
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ
تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً
لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ المائدة (119)
هذه الآية تطرح التساؤل للمؤمنين، مالكم ألا تأكلون مما ذكر اسم الله عليه، فلازال البعض في قلبه ريب أثناء التطبيق، فيشعر بحرمة بعض الأطعمة التي أشاع الشيطان وأولياءه حرمتها وهي حلال أصلًا، والله لا يريد من المؤمن أن يخشى
غيره، "وقد فصل لكم ماحرم عليكم" وبعد هذا التفصيل في المحرم، يتضح أن ما
تبقى منه هو حلال، فلماذا يمتنع المؤمن عن الحلال؟
"وإن كثيراً ليضلون
بأهوائهم بغير علم" ثم يؤكد المولى عز وجل للمؤمنين أن لا يستمعوا للمضلين،
وأن يستمعوا لكلماته هو سبحانه، ويؤكد أن كثيرًا من الناس يضلون بأهوائهم بغير علم (من الكتاب).
" إن ربك هو أعلم
بالمعتدين" الله أعلم بمن يعتدي على دينه بالفتوى وتبديل الأحكام.
لتحديد مقصود هذه الآية التي أتت في سياق متصل بالآية السابقة، وبالآيات اللاحقة أيضًا، نطرح التساؤل التالي: " وقد فصل لكم ماحرم عليكم" أين تم تفصيل المحرمات التي قصدتها الآية؟ هل في الآية السابقة؟ أم في هذه الآية؟
يبدو واضحًا أن تفصيل التحريم قد تم في سورة آخرى سبقت هذه الآية في النزول؟ لذا فالآية أتت تعاتب المؤمنين على التطبيق بعد البيان، وتعاتبهم على شيء دقيق جدًا وهو ما يُضمره الإنسان في قلبه في التعامل مع الأشياء، إذ لا ينبغي لمؤمن أن يمتنع عن شيء بدافع تقوى نص من عند غير الله، والله عز وجل يرفض تلك التقوى ويعدها تقوى لغيره وليست له، وهو سبحانه لا يقبل إلا تقوى الكتاب، لا تقوى الموروث، أي يقبل التقوى النابعة من دراسة الأحكام من الكتاب، لا التقوى النابعة من العادة والألفة التي اكتسبها الإنسان من محيطه ومجتمعه، فضلًا عن أنه يُحاسِب على تلك التقوى الموروثة ويعتبرها إثمًا باطنيًا، وهذا تمامًا ما تقوله الآية التالية حين وجهت الخطاب للمؤمنين الممتنعين عن أكل بعض الأطعمة بسبب العادة والألفة بقولها : "وذروا ظاهر الإثم وباطنه"، فسواء أعلنتم عن سبب امتناعكم عن أكل ما أحل الله أو لم تعلنوا فإن الله يعلم ما تكتمون وما تعلنون!
وعلى هذا أساس هذا الفهم نسأل السؤال التالي: إذا كانت هذه الآية قد جاءت لتحاسب المؤمنين على التطبيق لا لكي تشرّع شيئًا جديدًا، فهل كان ذلك التشريع تامًا أم ناقصًا حين نزلت هذه الآية؟ وأين يكون ذلك التشريع؟
يبدو لنا أن الإجابة واضحة، إذ لا يمكن أن تحاسب الآية على شيء بقولها: "مالكم ألا تأكلوا مما ذُكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ماحرم عليكم" في وقت لم يصل للمؤمنين العلم بتمام الحكم في الطعام، لأنها تقول لهم أنتم تمتنعون عن أطعمة ليست من المحرمات في الوقت الذي تعلمون فيه أنها ليست محرّمة وذلك لأسباب في قلوبكم، فلماذا لا تطهرون قلوبكم من الماضي ومن تبعاته التي تسيطر على أفعالكم؟! إذًا يبدو من هذه العبارة أن لا إضافات على تلك المحرمات، ولا توضيح أجلى وأعلى منه!
أما إذا سألنا عن موقع التشريع، وعن الآيات التي ذكرت تفصيل المحرمات، فيكاد الاتفاق أن يصل للإجماع بلا تردد في أنها آية (3) من سورة المائدة (آية حُرمت عليكم)، والتي ذكرت تفاصيل لم تذكرها آيات أخرى، ثم ختمت بقولها " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون"، وكأن التفصيل سيقطع الطريق أمام الذين كفروا في العبث فيما يريده الله من أحكام في هذا الموضوع، ثم تعطي الآية التالية احساس بأهمية أحكام الطعام وعلاقتها الوطيدة بالدين وكماله، " اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"، فلا غرابة أن تتوجه الأنظار لهذه الآية التي حملت تفصيل محرمات الطعام، واشتملت على عبارات كمال الأحكام وتمام النعمة والإسلام.
السؤال التالي بعد هذا الفهم: إذا كانت آية (3) من سورة المائدة قد حصرت كل المحرمات، فأين نجد حرمة أكل الأنعام أو الحيوانات التي ذُبحت ولم يتم التلفظ عليها أثناء الذبح أو الصيد في تلك الآية؟ إذا كانت آية (118) تعقب على فعلٍ لم يطابق القانون الإلهي الموضّح والذي لا نقص فيه ولا إضافات بعده بدلالة عبارة (إكمال الدين) في تلك الآية، فلابد وأن يحوي ذلك القانون - وليس آية 118 - حرمة أكل الذبيحة التي لم يتم التلفظ باسم الله عليها أثناء الذبح، فأين ذلك النص في تلك الآية؟!
اشتملت آية (3) من سورة المائدة على تفصيلٍ لمحرمات عدة، لكن ليس من بينها مالم يذكر اسم الله عليها تفلظًا! فهل العتاب الذي وُجه للمؤمنين في آية (118) من سورة الأنعام قد قصد من العبارة " ما ذكر اسم الله عليه" وجوب التلفظ باسم الله على الذبيحة أثناء الذبح أو الصيد، أو قصد تأكيد الحليّة لأصنافٍ هي في الأصل خارج المحرمات المذكورة في آية (3)؟
حين نتتبع الموضوع ولا ننشغل بتأثير الصورة النمطية التي انطبعت في الذهن والتي تجبر النفس للانصراف لها، نجد أن الإجابة الثانية هي الإجابة المنطقية والمقبولة، وهي أن العتاب الموجه للمؤمنين كان على أساس أنهم يعلمون أصناف التحريم بالتفصيل، ومع ذلك امتنعوا عن الأكل عن أصناف حلال لم يشملها التحريم، نعم، لو أن آية (3) اشتملت على وجوب التلفظ باسم الله، سنقبل بالإجابة الأولى وسنقول بوجوبه، لأنها هي الحاكمة في هذا الموضوع، والآية (118) من سورة المائدة ترجع الأمر والحكم لها، وعتابها ولومها على أساس معرفة المؤمنين بتفاصيل المحرمات في تلك الآية، فلا يُعقل أن يتم إضافة شرط جديد في آية (118) لم تذكره آية (3).
لقد وجدنا في الآية السابقة آية (117) من سورة الأنعام أننا انصرفنا إلى صورة نمطية في الأذهان حين قرأنا العبارة : "فكلوا مما ذُكر اسم الله عليه"، ولكننا بطرح الأسئلة وجدنا أنه من الصعوبة بمكان أن تحمل هذه العبارة المعنى الذي وجدناه في واقعنا، وتأكد المعنى في الآية التالية لها آية (118) حيث وجدنا أنه إن كانت تلك الصورة النمطية هي ما تتحدث عنه هذه الآية بلزوم التلفظ باسم الله أثناء الذبح، فيلزم ذلك وجود هذا الشرط في الآية المفصلة آية (3) من سورة المائدة آية (حُرمت عليكم)، ولأنها لم تحمل ذلك التحريم يتأكد لنا أن عبارة " ماذكر اسم الله عليه" بعيدة عن التصور الذي انصرفت إليه الأذهان ولا تقصد التلفظ بالاسم أثناء الذبح.
***
هذه الآية الكريمة تؤسس للفهم بشكل مهم، حيث أنها تضع مقطع الآيات في السياق القرآني الصحيح، لأنها جاءت كتعقيب لأفعال المؤمنين بعد تفصيل المحرمات وليس قبله، وهذا التفصيل له أهمية في فهم معاني هذا المقطع من الآيات وعليه سنؤسس لفهم آية ( ولا تأكلوا ) الآية (121) من سورة الأنعام.
(وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ
وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا
يَقْتَرِفُونَ (120))
وهذه الآية توصي المؤمنين
بأن يتركوا ظاهر الإثم في الاعتداء على أحكام الله بغير علم ومن دون الرجوع لكتاب
الله ، أو باطن الإثم بأن يُترك الحلال وفي النفس شيء من الأحكام الباطلة السائدة
بين الناس.
الآية تؤكد على أصل الموضوع، وهو الامتناع بسبب وجود علل نفسية كونتها عقائد المجتمع أو ترسبات الموروث، وتبين أن الإنسان محاسب على ما يضمره في قلبه. فظاهر الإثم هو اعلان هذا الامتناع، أما باطنه فهو الامتناع الذاتي بسبب معتقد قديم، وكلاهما يسميهما القرآن (اثم) والاثم كلمة مرافقة للاعتداء، وكلمة الاعتداء مرافقة لتحريم ما أحل الله :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ سورة المائدة (87)
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ سورة المائدة (87)
﴿ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا
لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ المائدة (121)
إن فهم الآيات ضمن هذا السياق الخاص، وضمن السياق العام للقرآن الكريم، هو المنهج الذي نعتمده في فهم الآيات وكذا هذه الآية الكريمة، هذه الآيات في سياق واحد، ويجب الاعتماد على مافهمناه في الآية (119) أن هذا المقطع من الآيات قد جاء كتعقيب على سلوك المؤمنين بعد أن علموا الحق كاملًا، وتحذر من الأهواء العامة التي قد تخطف قلب المؤمن عن محكم ما أنزل الله، لذا يمكننا أن نقول أن الآية تقول: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " ونضيف " وقد فصل لكم ماحرم عليكم" على غرار الآية السابقة لأنهما يضيفان ويكملان لبعضهما البعض في الفهم.
هذه الآية جاءت على أساس وجود تفصيل بين قبل نزولها، فإذا حملت نص حرمة فلابد وأن يكون قبلها وليس فيها فقط، وعلى غرار السؤال الذي سألناه سابقًا في الآية (118)، نسأل: إذا كان عدم ذكر اسم الله تفلظًا على البهيمة أثناء الذبح يحرم أكلها، فأين نجد ذلك في آية (3) من سورة المائدة، أو أي مكان آخر في القرآن، فهذه الآية ومن سبقها لايمكن أن تعاتب المؤمنين بهذه اللهجة دون أن يكون هناك قانون بين قد سبق هذا العتاب.
وإذا كان السؤال الذي يدور في الأذهان هو : هل يمكن فهم الآية على أنها تقول : لا تأكلوا مما أحل الله لكم حتى تذكروا اسم الله عليها أثناء الذبح؟ سنقول هذا حكم إضافي يحرم زيادة على ما سبق ذكره من محرمات قبل نزول هذه الآية، أي في آية (3) من سورة المائدة أو أي آية أخرى، لكن هي في ذاتها تقول أن تفصيل المحرم قد سبق قبل أن أعاتبكم! وعليه فإن العتاب على شيء تعلمون حليته، والتأكيد على شيء تعلمون حرمته.
وإن قيل: لِم وصفت الآية " مالم يذكر اسم الله عليه " بالفسق إذًا؟ ألا يعني ذلك أن الموضوع في عدم ذكر اسم الله تلفظًا على الأنعام أثناء الذبح؟ نقول أن الفسق كلمة تصف الفعل أو الحكم ولا تصف الأنعام، فلا نقول أن هذه الأنعام فاسقة، أو هذا اللحم فاسق ولكن نقول أن هذا الفعل فسق، أو هذا الحكم فسق، فالفسق هو الخروج عن أوامر الله، أو تبديلها، وهو ابتعاد عن الأمر وهو انفصال عن الالتصاق الشديد، والكلمة تعطي الصورة التي كان من المفترض أن يكون عليها المؤمن الذي فسق، فقد كان من ا لمفترض أن يكون شديد الالتزام بالأمر ولا ينسلخ عنه بأي عنوان آخر. يقول الله عز وجل:
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ الكهف (50)
ويقول في آية آخرى:
﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ البقرة (59)
الآية الأولى أعطت معنى الفسق أنه عصيان الأمر، والثانية أعطت معنى الفسق أنه تبديل الحكم بحكم آخر، وكلاهما يؤديان لنفس النتيجة في موضوعنا هذا - حكم الطعام - فالأمر هو وجوب الالتزام بالمحرمات التي ضيقها القرآن وعدم الخروج عنها، فالمحرم محرم ومالم يذكر في المحرمات فهو حلال.
وعليه نسأل: ما الأمر الذي تعنيه هذه الآية التي نحن بصددها؟ ولنسأل هذا السؤال بدقة أكثرفنقول: الضمير(هـ) في قوله تعالى "(إنه) لفسق" في الآية الكريمة عائد على من؟
لا يمكن أن نقول أنه عائد على الأنعام! إذ من ممكن أن نقول أن الأنعام أو اللحوم تفسد لكن لا نقول أنها تفسق، وعليه لابد وأن نبحث عن شيء آخر تقصده الآية ، فالفسق يطلق على الحكم الذي لم يأمر به الله، لذا يمكن أن نقدر أن هذا الضمير (هـ) عائد على حكم من أحكام الطعام تتعامل معه الناس على أنه حق من عند الله ولكن لم تنص عليه الكتب السماوية، لذا قالت الآية مؤكدةً "وإنه لفسق".
ويؤكد هذا الفهم ما أتمت به الآية قولها: " وإن الشياطين ليوحون إلى إولياءهم ليجادلوكم" فممارسة الجدال في الدين تكون في الأحكام، فهي محاولة لتثبيت ذلك الحكم - الفسق - من خلال ذلك الجدال في قلوب الناس حتى يتعاملوا معه وكأنه من عند الله.
موضوع الآية هو المنع من أكل مالم يُذكر اسم الله عليه، فأصل الموضوع هو تبيين ما الذي منعت الآية الناس الأكل منه؟ فما الذي عنت به الآية بقولها " ما لم يذكر اسم الله عليه "؟
بعد فهم الفسق وأنه متعلق بالأحكام، يتبين لنا أن المسألة دينية، فالناس ستأكل منه أو لن تأكل منه بناءًا على اتباع حكم من خارج الكتاب، أو اتباع حكم الكتاب، فإن اتبعت الكتاب ستمتنع من أكله، وإن استمعت لأحكام خارج الكتاب، واتبعت الجدال الذي يحاول الشيطان أن يبثه من خلال أولياءه اعتبرته حلالًا وأكلت منه.
ونعود مرة أخرى لفرضية أن "ماذكر اسم الله عليه" هي الأنعام أو اللحوم التي ذكر اسم الله عليها تفلظًا أثناء الذبح، وسنطبق مضمون الآية على هذه الفرضية، الآية تقول : " لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق "، فبقولها إنه لفسق هي تشير إلى أن الحكم الذي قضى بأكل ذلك الصنف حكم باطل ولا أساس له من الصحة في كتاب الله، وعلى أساس هذا الاتجاه في الفهم لابد وأن يكون الفسق الذي تشير له الآية هو : وجوب عدم ذكر اسم الله تلفظًا أثناء الذبح على الحيوانات أو بعضها، فإذا أخذنا المسألة بدقة، سنقول أن الحرمة مخصصة للحوم التي ذُبحت لدى أناس يمنعون الذابح من أن يذكر اسم الله تلفظًا على الذبيحة على أساس حكم شرعي منسوب للدين. وعليه إذا كانت تلك الحرمة مخصوصة لتلك الحالة، فلا حرمة لأكل بقية الحالات، فالحالات التي ذُبحت ولم يُذكر اسم الله عليها تلفظًا بغير عمد لا حرمة فيها، فقد يكون صاحبها ناس أو لا يعلم أو لأي حالة من الحالات التي لم تخصصها الآية. وبهذا فإن ألفاظ الآية لا تحرم أكل اللحوم التي لم يتم ذكر اسم الله تلفظًا عليها في العموم، لأنها حالة خاصة.
أما إذا قلنا بأن العبارة القرآنية "مالم يُذكر اسم الله عليه" تعني المحرمات، فسيكون معنى الفسق هو العبث في تلك الحرمة ومحاولة تحليلها، فتحليل المحرم فسق، خصوصًا وإن الآيات تأتي كتعقيب على سلوكيات المؤمنين بعد نزول تفاصيل المحرمات، فيبدو أن نزول هذه التفاصيل تسببت في قلق المتشرعة التي لا تتبع ما أنزل الله، وحركت الشياطين للعبث وبواسطة الجدال في تغيير هذا الواقع من أجل تحليل ماحرم الله وتحريم ما أحله الله.
***
وتأتي هذه الآية لتؤكد على
المؤمن أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وهو الذي قال الله سبحانه وتعالى
بحرمته، وإنه لفسق فالمحرم الذي يحل هو فسق أي خارج دائرة الطيب. وهذه الآية
تبين أن الشيطان يسعى لأن يحلل الحرام ويحرم الحلال من أجل تبديل كلمات الله.
"وإن الشياطين ليوحون
إلى أوليائهم ليجادلوكم" وهو بيان أن للشياطين " من شياطين الجن
والإنس" أولياء يوالوهم ويعملون بإمرتهم بأن يقوموا بجدالكم من أجل أن
يخرجوكم عما التزمتم به من أحكام، فقلوبهم لا ترضى لكم هذا الالتزام.
"وإن أطعتموهم إنكم
لمشركون" هذه آية صريحة وبسيطة تعرف الشرك بأنه طاعة غير الله، تشرك بالله
في الحكم، تجعل لله شريك في ملكه لأنك جعلت له نداً في أن يحكم عليك في دينك.
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122))
تشبه هذه الآية الذي ليس
لديه علم بالميت الذي أحياه الله بإنزال الكتاب، وحين أنزل الله عليه الكتاب جعل الله
له نوراً بالكتاب يمشي به بين الناس، أي يستضيء بهذا الكتاب على الضلالات المنتشرة
فيرى سليمها من فاسدها، يرى حقيقة كل أمر هل له أصل في الكتاب أو لا؟ فهذا الإنسان
حتماً لا يعادله أحد في هذه البصيرة ، خصوصاً أولئك الذين يعيشون الظلمات فلا
يخرجون منها.
" كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون"
بمثل هذا النور الذي يقود المؤمن هناك
ضلال يقود الكافرين في أعمالهم.
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي
كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ
إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123))
استكمالاً على الحديث في
الآية السابقة، وبمثل ذلك أيضاً جعلنا في كل قرية من أكابر المجرمين الذين يمكرون في
الدين من أجل الذهاب بالناس إلى عقيدتهم التي توارثوها في قبال حقائق الكتاب
السماوي، وهم في الحقيقة لا يمكرون إلا
بأنفسهم وما يشعرون.
(وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ
قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ
عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124))
وإذا جاءت آية بينة توضح
فساد ما هم عليه من عقائد باطلة، استكبروا على من جاء بالهدى ونظروا لناقل الهدى
بدلاً من أن ينظروا للهدى نفسه، وبدلاً من أن يعترفوا بخطئهم وانحرافهم عن أوامر
الله التي جاءتهم في كتبهم السماوية،
تماماً كما حدث في رسالة النبي محمد (ص) الذي جاء مؤكداً للحقيقة الموجودة في الكتب
التي لدى اليهود والنصارى، ومؤكداً على ملة إبراهيم. وعلى هذا فهم يطالبون النبي
بأن يؤتيهم بآية كما أوتي رسل الله السابقون حتى يثبت لهم أنه رسول، ولكن الله يرد
على هذا الطلب ويقول " الله أعلم حيث يجعل رسالته" وكأن طلبهم كان
بمثابة أنهم قالوا إذا كنت أنت الرسول فلا نقبل بك؟ وهذا تماماً هو حقيقة الطلب،
فلو جاءت الآية لن يؤمنوا؟
(فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً
حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ
الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125))
المسألة في الانصياع لكلام
الله ولآيات الله ليست في تحقق مطالب محددة يطلبها من يريد أن يؤمن من الرسول
فتتحقق فيؤمن كما يطلب هؤلاء في الآية السابقة، ولكن الإسلام للآيات هو هدى وحالة انشراح
تسكن في صدر المؤمن لقبول كلمات الله، وتطبيقها، وهذا الأمر ليس معزولاً عن إرادة
الله وأمره لمن يشاء له الهداية الفلاح. لذا فإن الذي لا يرتضي له الله هذا الهدى
يجعل في صدره ضيق من هذا الكلام، فلا تسكن الكلمات صدره لأنه ضيق حرج كمن يصعد
الأعالي والجبال يشعر بضيق في صدره فلا يستطيع التنفس بسهولة، وهذه الحالة هي رجس
يستحقه من لا يؤمن بالآيات حق الإيمان.
(وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ
مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126))
هنا في
هذا الكتاب صراط الله المستقيم، واضح بين لمن اراد أن يتذكر .
***
يبقى أن نعطي للعبارة القرآنية "ذكر اسم الله عليه" مساحة أرحب في عقولنا وقلوبنا كي تتحرك لتخبر عن مافيها من مفاهيم عالية، وما تحويه من مضامين ومعاني أخرى غير التي وضعناها فيه، وغير تلك التي انصرفت أذهاننا بالخطف السريع دون تأمل.
نعود فنسأل سؤالًا سبق وأن طُرح في الآية السابقة: إذا كانت مسألة ذِكر اسم الله قد حُصرت في الماضي، فلم أوقفناها عند الذابح؟ لم لا يكون ذِكر اسم الله قبل ذلك؟ ولم حصرناها بالتلفظ؟ فقد تكون بغير التلفظ! وبعد دراسة هذا السياق، لم لا نقول أن الذاكر لاسم الله على كل الأنعام واللحوم - باستثناء لحم الخنزير - هو كتاب الله وآياته البيّنات الواضحات؟ لم لا نقول أنه هو الذي ذَكر اسم الله عليها فأصبحت حلالًا لنا؟ خصوصًا وأن الآيات تجري مجرى التحليل لتوسع ما ضيقه الإنسان ولا تجري مجرى التحريم لتضيقه أكثر وأكثر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق