الخميس، 19 ديسمبر 2019

سورة المؤمنون من آية 105 إلى آية 111




طباع الإنسان السيئة هي عدوه اللدود، والإنسان المؤمن في معركة داخلية معها من أجل استئصالها واستبدالها بطباع أخرى يرتضيها الله عنه وذلك هو الجهاد الأكبر. والإنسان مع الآيات إما مؤمن بها أو مكذب، لأن الله ينذره في آياته بالعذاب في سبيل تغيير نفسه وتغيير الطباع السيئة المتجذرة في سلوكه، وهو أمام خيارين، إما غالب أو مغلوب، غالب بعزم وتوكل على الله، أو مغلوب في انجذابه للحياة وسكونه إليها واغتراره بالدنيا وفتنها. فإن غالبَ نفسه فقد فعّل تصديقه بالآيات، وإن كسل عن العمل فقد كذّب بوعد الله ووعيده. وهو في الدنيا إما مشغول بنفسه لإصلاحها، أو مشغول بغيره، ومن انشغل بغيره انشغل عن نفسه، وعن قضيته الكبرى، ومشكلته مع الله ومع الآيات، وهذا ما تسميه الآيات القرآنية نسيان للذكر، يقول الله سبحانه وتعالى في آواخر سورة المؤمنون:

(أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107))

الله سبحانه وتعالى يحتج على الذين كذبوا بآياته، أن الآيات كانت تُتلى عليهم، ومن هو الذي تتلى عليه الآيات؟ هو الذي يعيش أجواء قريبة من القرآن الكريم، هو في أوساط تتلى فيها الآيات، ولكن هذه التلاوة لم تكن لتغير فيه شيئا، والركون للطبع السيء وعدم التغيير أسمته الآية تكذيب، لأن التصديق هو تفعيل لحقيقة الإيمان، والإنسان يصدق الشيء بعمله، أما إذا لم يعمل ولم يغير بناءًا على قول الآية فهو تكذيب بها.

وما الذي منعهم من التغيير؟ هو أن لديهم طباع غلبتهم بدلًا من أن يغلبوها، ( ربنا غلبت علينا شقوتنا ) الشقوة التي يشتكوا منها هي ما شق عليهم تغييره ، هي الأخلاق السيئة، والطباع الذميمة المتأصلة التي تمكنت منهم فلم يستطيعوا أن يغيروها لأن تغييرها شاق، ونتيجة لذلك ضلوا عن طريق الهدى وطريق الصلاح.

والآن لا ينفع الصراخ ولا المطالبات بالعودة إلى الدنيا مرة أخرى، (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) هذا نداء إلى الله بأن أعدنا مرة أخرى للاختبار الذي وضعتنا فيها سابقًا، أعدنا حتى نتغير ونتغلب على تلك الشقاوة، نقاومها، نستبدل طباعنا السيئة لنكون من الصالحين ومن المحسنين.

(قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ (111))

يأتي الرد أن "اخسئوا"، ومن القائل؟ هو الله عز وجل، اخسأ اي ابتعد عني ولا تكلمني، كما كانت الآية تقول (ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)) يخسأ البصر أي يتراجع في أن يرى في السماوات أي فطور، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى اخسؤوا فيها أي في النار، ولا تكلمون، لا اسمح لأحد أن يكلمني بعد الآن، ليس لكم كلام معي، ولا اعتذار. ومن يخاطب؟ يخاطب أولئك الذين كانت الآيات تتلى عليهم، وكانت الآيات ترشدهم إلى عيوبهم، وتبيّن خطورة  التكبر، والتعالي، وخطورة الاستهزاء بالناس وبالمؤمنين، لكنهم لم يعيروها اهتماماً، وكانت لذة الاستهزاء غالبة مسيطرة على أفعالهم، وشهوة الاستكبار تغمرهم فلا يرون  حقيقة أنفسهم من خلال الآيات.

لا يقبل من هؤلاء الذين كانت الآيات تتلى عليهم أي كلام ،ولا اعتذار ولا طلب، لماذا؟ لأن الآيات كانت تُتلى عليهم فلم يستجيبوا، وكان هناك في نفس الوقت، وفي نفس الكان والزمان، فريق من الناس أسماهم الله سبحانه وتعالى (عبادي) يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، كانوا يقرون بذنوبهم، يقرون بتقصيرهم، ويطلبون من الله العفو والمغفرة، والله يقول للذين غلبت عليهم شقوتهم أنه بدلًا من أن تكونوا معهم في مشروع تغيير الطباع السيئة وإصلاح النفس، اتخذتموهم سخريًا، رحتم تسخرون منهم، لأنكم كنتم تعيشون غمرة الكبر والتعالي فعميت أبصاركم عن أن تروا حقيقة أنفسكم، واستضعفتم الإيمان وأهله، فأنسوكم ذكري، وهذا مايؤكد أن هذه الفئة كانت تؤمن بالذكر، ولكنها نسته، وبدلًا من أن تنشغل بنفسها انشغلت بغيرها، وانشغالهم بغيرهم أدى بهم إلى نسيان الذكر، وبالتالي إلى التهلكة.

وحتى تزداد بكم الحسرة، ويزداد بكم الألم، ويتضاعف بكم العذاب، إني جزيتهم اليوم على صبرهم ذاك، لقد صبروا على الاستهزاء، وصبروا على طباع من استكبر عليهم، صبروا على من اتخذ آيات الله هزواً، ورغم كل ذلك واصلوا بإيمانهم بالآيات، واستعدوا للقاء الله على أساس ما أنزل الله، فجزاء لهم هاهم اليوم يعيشون النعيم، وهم الفائزن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق