(بسم الله
الرحمن
الرحيم)
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ
أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ
عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ
رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ
ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا
كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ
نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6))
1- (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1))
الآيات الشريفة تفتح سورة يونس بتعجب الناس من حقيقة ارسال الرسل، بدأت السورة المباركة بالحروف المقطعة، (الر) والتي لا يعلم العرب حقيقتها، ومن ثم تقول الآية الشريفة ( تلك آيات الكتاب الحكيم)، وكأنها تشير إلى الحروف المقطعة التي لا يفهمها العرب أن هذه الحروف هي آيات الكتاب الحكيم، وكأنها تشير إلى إعادة تنزيل لآيات كانت موجودة في كتاب مسبق، وهو ما يتحدث عنه القرآن أنه مصدق لما بين يديه، فإذا كان الذي بين يديه هو التوراة، فالقرآن مصدق للتوراة، فقد تكون هذه الحروف هي من أصل التوراة، ولها معنى لدى أهل التوراة ولكن العرب لا يعلمون معناها.
الآية الأولى الشريفة تصف الكتاب بأنه (حكيم)، فمن هو هذا الكتاب الحكيم؟ كل الكتب السماوية هي كتاب واحد، فالتوارة كتاب حكيم، والقرآن مصدق للتوارة وهو حكيم، وكلاهما من عند الله الذي عنده أم الكتاب وهو علي حكيم.
2- (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2))
الآية الشريفة تتحدث عن عجب الإنسان من موضوع الرسالة، بسبب أنه لم يألف هذا الأمر لم يكن في عاداته ولا في معتقداته وذلك لأنه سمع بالرسالة في القديم من الزمان، ولكن حين يعيش الإنسان هذه الرسالة بنفسه يأخذه العجب، وهذا العجب يقود الإنسان إلى الكفر، لأنه يقيس الحدث عن طريق ما ألفه لا عن طريق قدرة الله وأمر الله وإرادة الله.
الآية تتحدث عن الناس، عن مجمل الناس، ولكنها تتحدث بخصوصية لقريش أنهم رفضوا هذه الرسالة بسبب الرسول، رفضوا الحكمة التي يتحدث بها هذا الكتاب المنزل بسبب هذا الرجل الذي أنزلت عليه هذه الحكمة وهذا الكتاب.
صيغة الآية تقول: هل تعجب الناس حين أوحى الله إلى رجل عادي منهم حتى ينذر الناس ويبشر المؤمنين الذين يؤمنون بهذه الحقيقة، فما العجب في هذا الأمر، لماذا تنظرون إلى الرجل ولا تنظرون للحقيقة؟ قال الكافرون إن هذا لساحر مبين؟! هذا هو تفسيرهم إلى انجذاب الناس للحق، هو أنهم منجذبون للرجل، بينما هم منجذبون للحق وليس للرجل، وهذا بسبب ابتعادهم الحقيقي عن الله سبحانه وتعالى.
3- ( إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3))
الآية تتحدث عن محورية موضوع السورة وهو اتخاذ الشفعاء من دون الله بتفاصيل ما أنزل الله بها من سلطان، الله في هذه الآية الشريفة لم ينف أصل الموضوع أو عنوان الموضوع وهو وجود شفاعة، ولكنه نفى أحد التفاصيل المهمة وهي أن الشفاعة لا تتم بدون إذن الله، مما يعني أن هذا التفصيل قد انحرف لدى المخاطبين، ودخل في اعتقادهم أنهم متمكونون من الشفاعة على كل حال، ولذا كان التوجه لهم بصورة كبيرة تتجاوز قدر الله وتقلل منه.
بدأت الآية بالحديث عن حقيقة هم يعرفونها ولكنها تذكرهم بها وهي أن الله سبحانه وتعالى هو خالق السماوات والأرض، للتذكير بقدر الله الذي رجع في قلوبهم على أساس هذه الشفاعة التي اعتقدوا بها، فأصبح القدر الكبير في قلوبهم إلى الشفعاء بدلًا من أن يكون القدر لله وحده، لأنه هو الخالق، وإذا كنتم تريدون شفاعة كان لزاماً أن تعودوا لله وحده لأن الشفاعة لا تتم إلا بإذنه، والله لا ينفي الشفاعة، ولكن ينفي أن يكون الاتجاه لغير الله بهذه الشفاعة وعلى أساس هذا العنوان.
الآية تقول: (إن ربكم هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)، بعد أن خلق السماوات والأرض جلس على العرش، في إشارة إلى تصرف الله في تفاصيل الحياة، لم يترك الحياة وليس بعيد عنها، هو الخالق وهو المتصرف والمدبر، ( يدبر الأمر )، إلى الله ترجع الأمور، وهو الذي يدبر الأمور، فامور الحياة وتصريفها يرجع إلى الله وليس لأحد غيره، والحديث عن هذه الحقائق هو من أجل إعادة الحق إلى نصابه.
(ما من شفيع إلا من بعد إذنه) هنا تتحدث الآية عن الأساس الذي تسبب في انحراف تلك المعتقدات، قد بدأ الانحراف من موضوع الشفاعة، الذي هو في الأصل عنوان صحيح، ولكن الشيطان غير التفاصيل، حتى وصل الأمر إلى أن أصبح الشفيع هو الذي يدبر الأمر وهو صاحب الحق المطلق في الشفاعة يوم القيامة، ولذا دخلت سلوكيات خاطئة في التوجه لهؤلاء الشفعاء بالدعاء، أو أن يحتلوا مكانة في القلب لا يستحقها أحد غير الله، والله يؤكد أن هذه الشفاعة لاتتم ولن تتم إلا بإذنه، لن يتمكن أحد أن يتجاوز هذا الخالق وهذا المحكم، ولا أحد يستحق أن يصل إلى هذه المرتبة.
( ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) عندما تقول الآية الشريفة " أفلا تذكرون" فهي تشير إلى أنهم يعلمون بكل هذه الحقائق، إن كان من فطرتهم أو من الكتب السماوية السابقة التي نزلت عليهم، لأن الكتب السماوية تسمى ذكر، وهذا الكتاب النازل على هذا الرجل إنما يذكرهم بحقائق هي في الأساس ثابتة ولكن يتم الانحراف عنها بسبب الابتعاد عن الذكر، ذلكم الله الذي تؤمنون به أنه ربكم، والله سبحانه وتعالى خالق ورب، خالق أي أنه الموجد لكل الموجودات في هذا الكون، والرب تعني أنه الذي يدير ويتعامل مع تفاصيل هذه الحياة مثل رب العمل، كما نقول أن هناك مالك لمصنع أو تجارة ما، وقد يكون هذا المالك غير متواجد في هذا المصنع أو في هذه التجارة، ولكن عندما نقول أن مالك المصنع هو رب العمل أيضًا، أي أنه لم يترك موقعه الذي فيه، وبالمثل فإن الله سبحانه وتعالى لم يترك إدارة هذا الكون، ولم يبتعد إن ربوبية العباد لأحد كما يتصور الإنسان، وهنا تقول الآية أن الله الذي تؤمنون به هو ربكم فاعبدوه وتوجهوا له كما ينبغي.
4- (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4))
الله سبحانه وتعالى يتحدث عن عقيدة باطنية لا ترى مجسدة في الواقع البصري، هي عقيدة داخلية باطلة وهي مرض يصاب به المؤمن بالكتاب والرسل، وليس عقيدة يصاب بها المنكرين للرسالات، وهي بهذا تتحدث عن عقيدة إن وقع فيها هذا المؤمن ولم يتب عنها فهو في عداد الكفار بآيات الله، الله ينذر هذا الذي لا يعود عن هذه العقيدة بالعذاب الأليم.
الآية تعالج هذه المشكلة العميقة في القلب والتي أحدثتها مشكلة الغلو في اعتقادهم في الشفاعة التي أشارت إليها الآيات السابقة فتقول " إليه مرجعكم جميعاً " لأنهم بغلوهم في الشفاعة اعتقدوا في أن المرجع لذلك الشفيع في عمق قلوبهم، وإن داروا ذلك بأقوال أخرى ظاهرية فقط، ولكن إن كان مظهر الأفعال يشير إلى أن المرجعيه لذلك الشفيع الذي سيقوم بتناول تلك أمور المعتقدين فيه في الآخرة، فهم محاسبون على أساس أفعالهم لا على أساس أقوالهم، فقد وقعوا في اعتقاد أن المرجعية لغير الله، والله ينذرهم بهذا.
"وعد الله حقًا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده" هو وعد الله سبحانه وتعالى إلى أنه يرجعهم إليه، لأنهم مخلوقاته هو خلقهم ثم يعيدهم إليه لأنه هو مالكهم وهو الذي خلقهم، " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط "
" والذين كفروا " الذين كفروا بخصوص هذه العقيدة أن المرجع لله سبحانه وتعالى، " لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون" ، الشراب من حميم، الحميم الذي يغلي شدة الغليان، فكيف بهذا الإنسان وهو يشرب من هذا الشراب الذي يقطع الأمعاء وما حجم الألم الذي يشعر به، وإضافة لذلك فله عذاب أليم، ألا يكفي أن يكون هذا الشراب عذاب له، لا لا يكفي، بل إضافة على ذلك عذاب أليم دائم، فياله من إنذار شديد ينذر به الله الناس من أجل العودة عن تلك المعتقدات، بأن يعودوا إلى الله حق العودة.
5- (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5))
الله سبحانه وتعالى يتحدث عن نفسه أنه هو من فعل هذه الآيات الكونية التي يراها الإنسان بنفسه ظاهرة مبصرة وهي الشمس والقمر، الله سبحانه وتعالى يقول : هو الذي جعل الشمس ضياء، أي أنها هي مصدر الضوء، والقمر نورًا أي أنها تعكس الضوء من قبل الضياء الذي يلقى عليها.
الله هو الذي قدر القمر منازل، تلك الصور المختلفة يوميًا حتى يدرك الإنسان ويحدد أنه في أي يوم، ويستطيع أن يحدد أنه في أي شهر، هذه المواقيت التي تكون علامة بارزة لكل الناس في كل بقاع الأرض علامة واحدة لا يختلف عليها أحد، هذه العلامة هي نعمة من عنده، ويقول خالقها أن الهدف من ذلك التقدير هو لكي يتعرف الإنسان على عدد السنين وحساب الأيام، ومافي هذه الأيام من عدد.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى أنه ما خلق الله ذلك إلا بالحق، وكيف يكون هذا القول بالحق؟ يكون بالحق إذا كان لدى الخالق قانون وهدف من هذه الخلقة، أما إذا اعتقد الإنسان بالشفاعة فقد أضاع هذا الاعتقاد، وهو أن الله قد خلق هذا الكون بالحق، لأن محاسبته أصبحت أمام الله بدون قانون، وبدون نظام.
6- (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6))
تلفت الآية النظر إلى ملكوت الله سبحانه وتعالى في الكون، وتلفت النظر إلى آية قائمة دائمة متواصلة يراها الإنسان في كل يوم، وهي اختلاف الليل والنهار، الليل ينقلب إلى نهار، والنهار يتحول إلى ليل، وهكذا، فيا أيها الإنسان التفت إلى هذه الحقيقة الثابتة التي هي من أكبر الآيات البينة، والنعم الدائمة والتي تمول الإنسان بالطاقة والحيوية والدفء بالنسبة للشمس، وبحساب عدد السنين والأيام بالنسبة للقمر، هذا التقلب في اليوم والليلة، وكذلك ما في السماوات من أجرام سماوية آيات لقوم يتقون، وقد أبرزت الآية الشريفة التقوى، لأن التقوى هي التي تجعل من الإنسان ينظر إلى هذه الحقائق بصورة جلية.
لآيات لقوم يتقون، التقوى هي الباعث لدى المؤمن لخشية الله وتطبيق أوامره وتتبع ما يأمر به في كتبه السماوية، فالآيات الكونية مرتبطة بالآيات في كتبه التي يرسلها الله عن طريق رسله.
الآية تتحدث عن الناس، عن مجمل الناس، ولكنها تتحدث بخصوصية لقريش أنهم رفضوا هذه الرسالة بسبب الرسول، رفضوا الحكمة التي يتحدث بها هذا الكتاب المنزل بسبب هذا الرجل الذي أنزلت عليه هذه الحكمة وهذا الكتاب.
صيغة الآية تقول: هل تعجب الناس حين أوحى الله إلى رجل عادي منهم حتى ينذر الناس ويبشر المؤمنين الذين يؤمنون بهذه الحقيقة، فما العجب في هذا الأمر، لماذا تنظرون إلى الرجل ولا تنظرون للحقيقة؟ قال الكافرون إن هذا لساحر مبين؟! هذا هو تفسيرهم إلى انجذاب الناس للحق، هو أنهم منجذبون للرجل، بينما هم منجذبون للحق وليس للرجل، وهذا بسبب ابتعادهم الحقيقي عن الله سبحانه وتعالى.
3- ( إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3))
الآية تتحدث عن محورية موضوع السورة وهو اتخاذ الشفعاء من دون الله بتفاصيل ما أنزل الله بها من سلطان، الله في هذه الآية الشريفة لم ينف أصل الموضوع أو عنوان الموضوع وهو وجود شفاعة، ولكنه نفى أحد التفاصيل المهمة وهي أن الشفاعة لا تتم بدون إذن الله، مما يعني أن هذا التفصيل قد انحرف لدى المخاطبين، ودخل في اعتقادهم أنهم متمكونون من الشفاعة على كل حال، ولذا كان التوجه لهم بصورة كبيرة تتجاوز قدر الله وتقلل منه.
بدأت الآية بالحديث عن حقيقة هم يعرفونها ولكنها تذكرهم بها وهي أن الله سبحانه وتعالى هو خالق السماوات والأرض، للتذكير بقدر الله الذي رجع في قلوبهم على أساس هذه الشفاعة التي اعتقدوا بها، فأصبح القدر الكبير في قلوبهم إلى الشفعاء بدلًا من أن يكون القدر لله وحده، لأنه هو الخالق، وإذا كنتم تريدون شفاعة كان لزاماً أن تعودوا لله وحده لأن الشفاعة لا تتم إلا بإذنه، والله لا ينفي الشفاعة، ولكن ينفي أن يكون الاتجاه لغير الله بهذه الشفاعة وعلى أساس هذا العنوان.
الآية تقول: (إن ربكم هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)، بعد أن خلق السماوات والأرض جلس على العرش، في إشارة إلى تصرف الله في تفاصيل الحياة، لم يترك الحياة وليس بعيد عنها، هو الخالق وهو المتصرف والمدبر، ( يدبر الأمر )، إلى الله ترجع الأمور، وهو الذي يدبر الأمور، فامور الحياة وتصريفها يرجع إلى الله وليس لأحد غيره، والحديث عن هذه الحقائق هو من أجل إعادة الحق إلى نصابه.
(ما من شفيع إلا من بعد إذنه) هنا تتحدث الآية عن الأساس الذي تسبب في انحراف تلك المعتقدات، قد بدأ الانحراف من موضوع الشفاعة، الذي هو في الأصل عنوان صحيح، ولكن الشيطان غير التفاصيل، حتى وصل الأمر إلى أن أصبح الشفيع هو الذي يدبر الأمر وهو صاحب الحق المطلق في الشفاعة يوم القيامة، ولذا دخلت سلوكيات خاطئة في التوجه لهؤلاء الشفعاء بالدعاء، أو أن يحتلوا مكانة في القلب لا يستحقها أحد غير الله، والله يؤكد أن هذه الشفاعة لاتتم ولن تتم إلا بإذنه، لن يتمكن أحد أن يتجاوز هذا الخالق وهذا المحكم، ولا أحد يستحق أن يصل إلى هذه المرتبة.
( ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) عندما تقول الآية الشريفة " أفلا تذكرون" فهي تشير إلى أنهم يعلمون بكل هذه الحقائق، إن كان من فطرتهم أو من الكتب السماوية السابقة التي نزلت عليهم، لأن الكتب السماوية تسمى ذكر، وهذا الكتاب النازل على هذا الرجل إنما يذكرهم بحقائق هي في الأساس ثابتة ولكن يتم الانحراف عنها بسبب الابتعاد عن الذكر، ذلكم الله الذي تؤمنون به أنه ربكم، والله سبحانه وتعالى خالق ورب، خالق أي أنه الموجد لكل الموجودات في هذا الكون، والرب تعني أنه الذي يدير ويتعامل مع تفاصيل هذه الحياة مثل رب العمل، كما نقول أن هناك مالك لمصنع أو تجارة ما، وقد يكون هذا المالك غير متواجد في هذا المصنع أو في هذه التجارة، ولكن عندما نقول أن مالك المصنع هو رب العمل أيضًا، أي أنه لم يترك موقعه الذي فيه، وبالمثل فإن الله سبحانه وتعالى لم يترك إدارة هذا الكون، ولم يبتعد إن ربوبية العباد لأحد كما يتصور الإنسان، وهنا تقول الآية أن الله الذي تؤمنون به هو ربكم فاعبدوه وتوجهوا له كما ينبغي.
4- (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4))
الله سبحانه وتعالى يتحدث عن عقيدة باطنية لا ترى مجسدة في الواقع البصري، هي عقيدة داخلية باطلة وهي مرض يصاب به المؤمن بالكتاب والرسل، وليس عقيدة يصاب بها المنكرين للرسالات، وهي بهذا تتحدث عن عقيدة إن وقع فيها هذا المؤمن ولم يتب عنها فهو في عداد الكفار بآيات الله، الله ينذر هذا الذي لا يعود عن هذه العقيدة بالعذاب الأليم.
الآية تعالج هذه المشكلة العميقة في القلب والتي أحدثتها مشكلة الغلو في اعتقادهم في الشفاعة التي أشارت إليها الآيات السابقة فتقول " إليه مرجعكم جميعاً " لأنهم بغلوهم في الشفاعة اعتقدوا في أن المرجع لذلك الشفيع في عمق قلوبهم، وإن داروا ذلك بأقوال أخرى ظاهرية فقط، ولكن إن كان مظهر الأفعال يشير إلى أن المرجعيه لذلك الشفيع الذي سيقوم بتناول تلك أمور المعتقدين فيه في الآخرة، فهم محاسبون على أساس أفعالهم لا على أساس أقوالهم، فقد وقعوا في اعتقاد أن المرجعية لغير الله، والله ينذرهم بهذا.
"وعد الله حقًا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده" هو وعد الله سبحانه وتعالى إلى أنه يرجعهم إليه، لأنهم مخلوقاته هو خلقهم ثم يعيدهم إليه لأنه هو مالكهم وهو الذي خلقهم، " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط "
" والذين كفروا " الذين كفروا بخصوص هذه العقيدة أن المرجع لله سبحانه وتعالى، " لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون" ، الشراب من حميم، الحميم الذي يغلي شدة الغليان، فكيف بهذا الإنسان وهو يشرب من هذا الشراب الذي يقطع الأمعاء وما حجم الألم الذي يشعر به، وإضافة لذلك فله عذاب أليم، ألا يكفي أن يكون هذا الشراب عذاب له، لا لا يكفي، بل إضافة على ذلك عذاب أليم دائم، فياله من إنذار شديد ينذر به الله الناس من أجل العودة عن تلك المعتقدات، بأن يعودوا إلى الله حق العودة.
5- (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5))
الله سبحانه وتعالى يتحدث عن نفسه أنه هو من فعل هذه الآيات الكونية التي يراها الإنسان بنفسه ظاهرة مبصرة وهي الشمس والقمر، الله سبحانه وتعالى يقول : هو الذي جعل الشمس ضياء، أي أنها هي مصدر الضوء، والقمر نورًا أي أنها تعكس الضوء من قبل الضياء الذي يلقى عليها.
الله هو الذي قدر القمر منازل، تلك الصور المختلفة يوميًا حتى يدرك الإنسان ويحدد أنه في أي يوم، ويستطيع أن يحدد أنه في أي شهر، هذه المواقيت التي تكون علامة بارزة لكل الناس في كل بقاع الأرض علامة واحدة لا يختلف عليها أحد، هذه العلامة هي نعمة من عنده، ويقول خالقها أن الهدف من ذلك التقدير هو لكي يتعرف الإنسان على عدد السنين وحساب الأيام، ومافي هذه الأيام من عدد.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى أنه ما خلق الله ذلك إلا بالحق، وكيف يكون هذا القول بالحق؟ يكون بالحق إذا كان لدى الخالق قانون وهدف من هذه الخلقة، أما إذا اعتقد الإنسان بالشفاعة فقد أضاع هذا الاعتقاد، وهو أن الله قد خلق هذا الكون بالحق، لأن محاسبته أصبحت أمام الله بدون قانون، وبدون نظام.
6- (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6))
تلفت الآية النظر إلى ملكوت الله سبحانه وتعالى في الكون، وتلفت النظر إلى آية قائمة دائمة متواصلة يراها الإنسان في كل يوم، وهي اختلاف الليل والنهار، الليل ينقلب إلى نهار، والنهار يتحول إلى ليل، وهكذا، فيا أيها الإنسان التفت إلى هذه الحقيقة الثابتة التي هي من أكبر الآيات البينة، والنعم الدائمة والتي تمول الإنسان بالطاقة والحيوية والدفء بالنسبة للشمس، وبحساب عدد السنين والأيام بالنسبة للقمر، هذا التقلب في اليوم والليلة، وكذلك ما في السماوات من أجرام سماوية آيات لقوم يتقون، وقد أبرزت الآية الشريفة التقوى، لأن التقوى هي التي تجعل من الإنسان ينظر إلى هذه الحقائق بصورة جلية.
لآيات لقوم يتقون، التقوى هي الباعث لدى المؤمن لخشية الله وتطبيق أوامره وتتبع ما يأمر به في كتبه السماوية، فالآيات الكونية مرتبطة بالآيات في كتبه التي يرسلها الله عن طريق رسله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق