الأربعاء، 19 يناير 2022

سورة البقرة من آية 26 إلى آية 29

﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ (26)

أولًا: هل الفاسقون يعرفون المثل؟ 
هم يعرفون المثل، لكنهم لا يعرفون ما هو غرض المثل؟ ما هو المقصود من ضرب المثل؟ هم يتساءلون: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ 
هم يعرفون المثل لكنهم لا يعرفون الغرض منه، لذا يقولون: (ماذا أراد الله بهذا مثلًا)؟ فمثلًا لو ضرب أحدهم مثلًا ففهمته وفهمت معناه، قد تتساءل: ماذا أراد صاحب المثل بضرب هذا المثل؟ هل يقصدني أم يقصد أحد آخر؟ وإذا كان يقصدني فما المعنى منه؟ فالفاسقون يعرفون المثل، لكنهم لا يعرفون ما هو الموضوع، وماهي مشكلتهم؟ وماهي علاقتهم بالمثل؟ أما الذين آمنوا فيعلمون ما هو الغرض من ضرب المثل!

ثانيًا: من هم الفاسقون؟ 
الفسوق فهو عدم تنفيذ الحكم مع الإقرار به، أما الفسق : فهو تبديل الحكم الذي أنزله الله بحكم  آخر. فالفاسقون هم الذين بدلوا مصدر أحكامهم وشرعهم عن كتاب الله، لماذا يفسق الفاسق عن الأمر؟ 
وماهو سبب فسوقهم؟ السبب الوحيد هو زيغ القلوب لشيء آخر، وسبب ذلك الزيغ هو تعظيم غير الله. 

ثالثًا: كيف نقرأ المثل؟ 
ما بعوضة فما فوقها؟ الفاء مربوطة بما قبلها، والعبارة موصولة، والمثل مخبوء في العبارة القرآنية بسيطة الألفاظ عميقة المعاني والدلالات، ومعناها هو التقليل من قيمة كل المخلوقات بدءً من أهون مخلوق وهو البعوضة، وكأنها تقول ما قيمة هذا المخلوق الضئيل الذي تحتقرونه؟ فإذا كانت الإجابة لاشيء، للدلالة على حقارته، فتكملة السؤال هي فما قيمة المخلوقات التي هي فوقه؟ في إشارة لبقية المخلوقات التي هي أعلى مرتبة من ذلك المخلوق الضئيل الحقير، والإجابة الضمنية هي: كلهم أمام الله مخلوقات! والمخلوقات درجات ولكنهم أمام الله عز وجل الخالق، هم واحد، ويضرب المثل بأحقر مخلوق يشاهده الإنسان ويحتقره، وهو البعوضة، ليرى بذلك نفسه. 

رابعاً: ما سبب الحياء؟
البعوضة معجزة، فما الحياء في هذا؟! إذًا سبب الحياء في التلفظ به، في أن نقول أن حقيقة الإنسان ماهي إلا بعوضة! فالحياء في التطبيق إذ لا نرضى أن نطبقه على الواقع، وخصوصًا حين نتحدث دينيًا عن أشخاص يقدسهم الناس، فنقول أنهم ماهم إلا بشر، والله عز وجل قال: أن مثل أي مخلوق هو كالبعوضة بالنسبة لكم! فيحصل الحياء لأننا لا نجرؤ أن نضرب هذا المثل أمام أتباع ذلك "القديس" البشري.

خامسًا : ما هو الحق في الآية؟
الآية متصلة بذات الموضوع السابق، بدءًا من الحديث عن مرضى القلوب، مرورًا بالحديث عن جعل الأنداد، إلى أن يصل إلى الحديث عن الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل في الآيات اللاحقة لهذه الآية "مثل البعوضة".
فالذين في قلوبهم مرض، لم يأخذوا بالكتاب كله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، ثم إن الله أذهب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون الهدى من القرآن، وذلك بسبب وجود الأنداد في قلوبهم، ولذا وقعوا في الارتياب في الكتاب، ثم جاءت هذه الآية بالحق في أن الأنداد الذين تم تقديسهم فانحرفت بوصلة التفكير بسبب الاعتقاد بهم بدرجة أعلى من الدرجة الحقيقية للبشرية، جاء الحق في قوله تعالى أنهم بشر وقدرهم عند الله كقدر البعوضة التي تحتقرونها، فتسحقونها بلمسة يد. 


سادسًا: كيف يُضَل بهذا المثل كثير من الناس؟ 
من لايؤمن أن حقيقة الإنسان في الخلق أمام الله كمثل أصغر وأضعف مخلوق - كالبعوضة - فقد أضاع مقام الإنسان، وإضاعة المقام هي إضاعة للحق بأسره، فحقيقة الانجذاب للحق مبنية على أساس أن يرى المؤمن أن القوة لله جميعًا، لا يشاركه فيها أحد، ولا ينازعه في مقامه أحد، فمن رأى أحدًا من الخلق أنه فوق الخلق وأعلى مقامًا منهم فقد افتتن به، وهذه الفتنة هي بداية إضاعة الحق، لأنها تتحول إلى تنازع في الكلمات، كلمة الله وكلمة ذلك البشر أو ذلك الخلوق، والله عز وجل يريد كلمته هي العليا في قلوب من أحبوه وآمنوا به، ولا ينازعها في ذلك المقام كلمة أخرى.
إذًا يُضَل كثير من الناس عن الهدى الذي هو في الكتاب، ويقعون في الريبة فيه، حين لا ينزعون من قلوبهم وهم وجود مخلوق فوق البشر في مقامه، وحين لا يطهرونه من الكبر في أنهم وطائفتهم إنما هم بشر ممن خلق، لا يزيدون عن غيرهم شيئًا ولن يحاسبوا بميزان مختلف عن بقية الناس. 


﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ (27)
هذه الآية الكريمة تتحدث عن أولئك الذين يضلون حين لا يعترفون بمثل - البعوضة - في خلق الإنسان، وتقول هم الذين " ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" وعهد الله هو ما يكون بين المؤمن وبين كتابه المنزل، وهم ينقضون ذلك العهد بالفسق، حين ينسلخون من أحكامه وعقائده إلى أحكام وعقائد أخرى، ولقد نقضوا ذلك الميثاق من بعد ميثاقه، أي بعد أن عاهدوا الله على الالتزام به. 

" ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" ما أمر الله به أن يوصل هو أحكام الكتاب، إذًا هم أناس مسؤولون عن توصيل ما أمر الله به في الكتاب إلى الناس، ولكنهم قطعوا هذه الصلة، ومنعوا كلمات الله من أن تصل إلى الناس، وأوصلوا بدلًا منها أحكام أخرى.   

" ويفسدون في الأرض" الإفساد في الأرض يكون بتبديل الدين، وتغيير الأحكام. وهذا ما يؤكد مسؤليتهم في إيصال كلمات الله، ولكنهم اختاروا أن يشيعوا بين الناس أحكام وعقائد ما أنزل الله بها من سلطان، وهي نفس الصفة التي سبق أن تحدثت عنها الآيات السابقة حين وصفت مرضى القلوب الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين. 

﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)﴾ 

الموت ليس هو العدم، فالموت يأتي بعد الحياة، ولقد خلق الله عز وجل الموت، بعد نشأة المخلوقات، وبعد أن أوجد الحياة. الآية تتساءل: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا"؟ أي كنتم قبل أن توجدوا في هذه النشأة أموات، فإذا قلنا أننا كنا أموات قبل هذا، فهذا يعني وجود حياة لنا قبل هذه الحياة، وتلك هي النشأة الأولى، بينما هذه هي النشأة الثانية، فقد عشنا في حياة قبل هذه، ثم أماتنا الله، ثم أعاد إحياءنا هاهنا. على هذا الأساس يمكن أن نقرأ الآية : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"؟
"ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون" وفي هذا المقطع تتحدث الآية الكريمة عن إعادة الإحياء مرة أخرى للبعث وللمحاسبة حين نرجع إلى الله يوم القيامة. والآية تتساءل في بدايتها كيف تكفرون بالله، تعقيبًا على مثل البعوضة والتي هي تعقيب في الأساس على موضوع اتخاذ الأنداد! كيف تكفرون؟ باتخذاكم للأنداد وبرؤية أحد بقدر أكبر من قدره، وأنتم تعلمون قدرة الله وتعلمون أنه هو الخالق ولا شيء يعادله؟! كيف؟ وهو الذي أحياكم في هذه النشأة بعد أن كنتم أموات، وأنشأكم في أحسن تقويم من أجل عبادته والتوجه له، لا لغيره. ثم تعقب الآية التالية لتعدد النعم التي من الله بها على الإنسان:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (29)

الآية تمن على الإنسان بالنعم العديدة التي أنعم الله بها على الإنسان، فهي تقول : "هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعًا" ، فإذا كان هو الخالق وهو المنعم فلم التوجه لغيره؟ ولم تجعل - أيها الإنسان - لله أندادًا بالتوجه لغيره. 
"ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات" بعد أن أخبر عن مافي الأرض يتحدث على أن ما في السماء من ترتيب للسماوات هو صنعه هو، وسبع سماوات من الممكن أن تكون سبع طبقات من الأسقف السماوية التي فوقنا. ثم تختم الآية الكريمة بقولها: " وهو بكل شيء عليم" ليستشعر الإنسان أنه تحت علم الله وليس ببعيد عنه، فكل ما يحدث على الأرض أو في السماوات فهي في علم الله. 

💥💥💥
مثل البعوضة يدفع الإنسان لنكران الذات أمام الله، وذاته هذه تتجسد في شخصه وطائفته ورموزه من الأشخاص الذين يؤمن بهم على أنهم بشر غير عاديون، وهذا المثل له علاقة بتزكية النفس، فالذين يزكون أنفسهم لا يريدون أن ينكروا ذواتهم، ولا يستطيعون النزول إلى حقيقة أنهم بشر ممن خلق الله، فهم في حالة استكبار على الآخرين، وهذه الحالة تقود إلى العمى والكفر والضلال. 

للمثل علاقة بحزب الشيطان المستكبر الذي يريد أن يسيطر بالقوة ويتدخل في اختيار الآخرين وتوجهاتهم وآراءهم، فيدخل للآخر من خلال تزكيته لنفسه، ويتحدث على أساس أنه صاحب  الرأي السديد، فيدفع المتبعين لله للتشكيك في اختيارهم ويقول لهم أن رأيكم غير صائب، وعليكم أن تتبعون، رغبة في السيطرة والسلطة بالرأي،  في المقابل فالمؤمن لا يريد أن يسيطر على أحد ولا يريد أن يقهر أحد، وإنما يدعوا لله شفقة ورحمة بمن ابتعد عن كتاب الله.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق