(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ
أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (5))
1- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1))
الآية الشريفة تؤسس لسلوك إيماني وهو وجوب استشعار وجود الله، لذا كانت المسارعة بإبداء الرأي من قبل المؤمن في القضايا الإيمانية هو تقدم على الله على أن المؤمن يشعر بحقيقة وجود الله مع هذه الجماعة وأنه هو سبحانه من يدير شأنها بصورة مباشرة.
"يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" التقديم للشيء يأتي متقدمًا عليه سابقًا له في الزمان، والآية الشريفة تحذر المؤمنين من أن يتقدموا في إبداء الرأي في قضاياهم الإيمانية على الله ورسوله، فالآية تقول " بين يدي الله ورسوله" فحين تقفون في قضية من قضايا الدين فأنتم بين يدي الله ورسوله أي في حضرته، "واتقوا الله إن الله سميع عليم" سميع لأقوالكم عليم بما في الصدور.
2- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2))
الآية الشريفة تتحدث عن أمرين: الأول هو درجة الصوت والثاني عن نبرته، وتأمر المؤمنين أن لا تكون درجة أصواتهم أثناء الحديث مع النبي أعلى من درجة صوته، ولا أن تكون نبرة أصواتهم معه كما هي مع غيره. على أن مخالفة هذا الأمر الذي قد يستهونه البعض قد يؤدي إلى إحباط العمل والمؤمن لا يشعر.
هذه الدقة في التعامل التي يحظى بها هذا الإنسان هي احترامًا للصفة التي يحملها، فمؤدى رفع الصوت هو التعالي على الممثل الرسمي لرسالة الله على الأرض وحامل كلمات الله، وهو أمر ملموس في واقع الحياة حيث يحظى الأشخاص وكذلك الهيئات التي تمثل دول أو جهات عالية باحترام كبير لدى الدول المستضيفة، وتعتبر الدولة الباعثة لذلك الشخص أو تلك الهيئة أن الاحترام لهم يعني احترام للجهة المرسلة، وأن أي اعتداء عليه يعتبر اعتداء مباشر لها. بهذه الدقة يجب أن يستشعر المؤمن أنه يعيش رسالة حقيقية وتعامل مباشر مع السماء، ولا يستهون بتصرفاته مع هذا الإنسان وإن بدا له الأمر عادي لا حرج فيه.
" يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" كلمة "فوق" تستخدم للدلالة على الدرجات، كما تشير إلى ذلك الآية الشريفة (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)، والصوت درجات كذلك، والآية تتحدث عن أمر دقيق في سلوك المؤمن وهو أن لا يرفع صوته كما الحمير مع عموم مع الناس، أما مع هذا الشخص فعليه أن يحاذر أكثر ويعتني في مراقبة درجة صوته أمام الممثل الرسمي للرسالة الربانية.
" وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ" الجهر هو الإعلان بالشيء، وفي الصوت أو الحديث يكون الجهر متعلق بنبرة الصوت فنقول صوت جهوري للدلالة على قوة النبرة، يقول الله سبحانه وتعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ مِنَ الْقَوْلِ)، والآية تقول لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أي كما تتحدثون مع بعضكم البعض في إشارة إلى أن النبرة العادية التي تحدثونها مع بعضكم البعض لن تكون مقبولة مع النبي.
"أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ" حبوط العمل هو فساده وبطلانه، فقد يؤدي هذا السلوك إلى أن يخسر المؤمن أعماله الصالحة وهو لا يشعر، فقد يعد أعماله تلك باقية القيمة لكنه في الحقيقة قد خسرها بسبب هذا السلوك.
3- (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3))
غض الشيء هو حدّه وإيقافه عن الامتداد، وتأتي هذه الكلمة مع موضوع البصر فنقول:غض بصره أي لم يمده إلى المدى الأبعد وأوقفه عند حدود البصر الأقل، واستخدمت هذه الكلمة في هذه الآية للدلالة على عدم امتداد الصوت، والآية تقول "إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ" لتكمل مابدأته الآيتان الأوليان عن الذين يتحكمون في درجة أصواتهم ونبرته أثناء تواجدهم مع الرسول، واستخدمت الآية لفظة "الرسول" وليس النبي لتعطي النبي صفته المعتبرة في موضوع الرسالة والتي على أساسها غض المؤمنون أصواتهم.
"أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى" أولئك أي الذين استجابوا لله في غض أصواتهم والتحكم بدرجته ونبرته ونجحوا في هذا الأمر، هم في الحقيقة تجاوزا امتحان رباني في موضوع التقوى، ولقد تبين سلامة قلوبهم من خلال هذا الامتحان. "لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ" هذه الأستجابة هي أحد سبل مغفرة الذنوب والحصول على الأجر العظيم من عند الله.
❓ ما الذي يجعل هذا الأمر ذو أهمية بحيث ينزل الله عليه آيات للمؤمنين؟
✨ يلفت القرآن الكريم النظر إلى إشارات جسدية ذات دلالات هامة في الإيمان، منها انثناء المعطف، أو لوي الرؤوس أو السيماء وغيرها من الإشارات التي تعطي بيانات عن حقيقة الإيمان، وفي انخفاض درجة الصوت ونبرته دلالة وتدريب، دلالة على التواضع أمام الحقيقة وعدم العلو وهو أمر هام في موضوع الإيمان ذلك أن أكبر ما يبعد الإنسان عن الحقيقة ليس العقل وإنما التكبر والتعالي هذا من جهة ، ومن جهة أخرى هو تدريب للمؤمن في التواضع وعدم التعالي أمام الله ورسوله، ويبدأ في هذا التدريب من نبرة الصوت ودرجته، فإن نجح في هذا الامتحان كان مؤهلًا لدخول طريق التقوى.
4- (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4))
تذم الآية الكريمة طريقة الحديث مع الرسول من قبل طائفة من المؤمنين برفع الصوت، وكما تبين الآية فقد ناداه عدد منهم حيث يسكن "من وراء الحجرات"، والحجرات جمع حجرة وهي مكان سكن بسيط ، وتصف الآية أكثرهم بأنهم لا يعقلون! ففضلًا على أن النداء من بعيد أو من وراء الجدران فيه إساءة لشخص النبي، فيه قلة تعقل لقلة صبرهم حتى يخرج النبي كما تبين الآية التالية.
5- (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5))
كان الأجدر من نداء الرسول والتعجل من أجل أن يخرج إليهم ليرى حاجتهم كان عليهم أن يصبروا حتى يخرج إليهم فهذا خير من النداء الذي لا طائل منه غير الإزعاج والتعامل بقلة ذوق واحترام، ثم تختم الآية بأن الله غفور رحيم لحثهم على الاستغفار على هذا التصرف السيء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق